أمكنة

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
أمكنة

مجلة ثقافية تُعنى بأدبيات المكان


3 مشترك

    بين السيل و السكة

    أمكنة
    أمكنة
    Admin


    عدد المساهمات : 285
    تاريخ التسجيل : 16/12/2010

     بين السيل و السكة         Empty بين السيل و السكة

    مُساهمة من طرف أمكنة 1/2/2011, 1:20 pm


    الكاتب: أمجد ناصر
    14 / 03 / 10
    (الى رشاد أبو داود وزرقاويين كثر)
    أبناء مدينة الزرقاء الأردنية المبكرون يعرفون ثلاثة معالم رئيسية لمكانهم البسيط الذي راح يتمدد، على نحو أميبي، مع الأيام: معسكر الجيش، سكة الحديد، السيل. كل بناء لاحق، كل مرفق عرفته البلدة في ما بعد، كل حي مخطط أو عشوائي قام فيها، كان يُعَلَّم بواحدة من نقاط العلام هذه. الأقدم، بالطبع، هو السيل الذي عرفه جدي، الجندي في جيش الإمارة، وقد كان نهراً محاطاً بأجمات من الشجر والأعشاب المتطاولة والقصب.
    النهر/ السيل هو أساس المدينة التي نشأت، في المكان نفسه، قبل نحو ألفي عام وسميت باللغة الأكادية "زار - كي"، أي مدينة، أو منطقة، المياه، وورد ذكر هذا الاسم، بالفعل، في رسائل "تل العمارنة" الشهيرة التي لم يتسن لإخناتون قراءتها. وبسبب النهر/ السيل قامت بالقرب من المدينة الحالية سلسلة من القصور الأموية التي كانت تشبه المنتجعات الصحية في أيامنا هذه. ويستمر النهر/ السيل في توليد حياة واجتماع بشريين في مطلع القرن العشرين عندما بدأت السلطنة العثمانية في شق خط سكة حديد الحجاز، حيث وطنت بالقرب من السكة أوائل المهاجرين الشيشان.

    هنا يحضر المَعْلم الثاني: سكة الحديد التي احتفلت، قبل نحو عامين، ثلاث دول عربية هي سورية والاردن والسعودية بذكرى مرور مئة عام على انشائها، فقد كان خط حديد الحجاز، اضافة الى النهر/ السيل، سبباً في بعث المدينة من رقادها القديم. ولم يكن لمعسكر الجيش، وهذا هو المَعْلَم الثالث للزرقاء، الذي بناه الانكليز شرقي سكة الحديد أن يقوم في مكانه لولا وجود النهر/ السيل، وسكة الحديد وبعض الاستيطان حول مجرى النهر. وببناء معسكر للجيش شرقي السكة اجتذبت البلدة أعدادا كبيرة من السكان: عائلات الجنود، التجار، العمال، فصارت للمدينة بؤرة تجارية ومرافق حيوية لحياة الناس الذين تكاثروا، خصوصا بعد نكبة عام 1948 التي زودت البلدة بعدد كبير من اللاجئين في مخيمات ايواء مؤقتة تحولت، فيما بعد، الى حي كبير ما لبث أن فاض بسكانه الذين لم تمكنهم حروب العرب اللاحقة من العودة الى ديارهم، بل زادتهم عددا بعد هزيمة حزيران (يونيو) 1967.
    ***
    تلك هي المعالم الثلاثة الأساسية للزرقاء التي اختيرت هذا العام عاصمة للثقافة الاردنية. أما المَعْلَم الرابع بالنسبة لنا نحن الشبان، الذين كانت تتمدد خطانا المرتبكة من أحيائنا العشوائية على جانب السيل نحو الأحياء الأكثر تخطيطاً ورقيّاً، فهو "قصر شبيب". والقصر، مثل المدينة، شهد تحولات العمران وتبدل الأسماء التي عرفتها الزرقاء عبر التاريخ. أصله قلعة رومانية، صارت حصنا أمويا ثم أيوبياً ثم مملوكيا إلخ.. مرَّ به صلاح الدين في طريقه الى حصار القائد الصليبي "إرناط" في قلعة الكرك، وتبادلت الإقامة فيه شخصيات قيادية أيوبية ومملوكية أثناء الصراع على ولاية الشام. وللقصر في المحكيات الزرقاوية نسب يعود الى الأمير شبيب التبع الحميري وثمة من ينسبه الى شبيب العقيلي. لكن قصيدة للمتنبي ترجح، على ما يبدو، كفة شبيب التبع الحميري، فها هو "أبو الطيب" يرثي شبيباً بالقول:
    برغم شبيبٍ فارق السيف كفَّه
    وكانا على العلات يصطحبان
    كأن رقاب الناس قالت لسيفه
    رفيقك قيسيٌّ وأنت يماني.
    ***
    السيل، السكة، المعسكر، قصر شبيب الذي يتربع أعلى تلة في الزرقاء ويشرف على مجرى "النهر العظيم" (بحسب ياقوت الحموي). تلك هي معالم مدينة الزرقاء التي بدأت، في مطلع القرن العشرين، قرية صغيرة للمهاجرين الشيشان وبعض بطون قبيلة "بني حسن" وصارت اليوم ثاني مدينة اردنية من حيث عدد السكان. تكاثر الناس، تمدد العمران (عشوائي الطابع)، تناسلت المصالح التجارية والصناعية من بعضها بحيث لم يعد هناك فراغ بين الزرقاء وعمان. من النافل القول إن "النهر العظيم" لم يعد له وجود، ناهيك بالطبع عن الأسود والفهود والغزلان وحمر الوحش... أو حتى الأرانب!
    ***
    في ذكرى مئة عام على انشاء سكة حديد الحجاز، التي يبدو أن هناك محاولات بين سورية والاردن والسعودية لعودة الحياة اليها كشريان نقل وتجارة وركاب بين الاقطار الثلاثة، أصدر "رواق البلقاء" كتابا أنيقا وضخما بعنوان "مرَّ القطار" يتضمن نصوصاً تاريخية وأدبية وصوراً قديمة تتعلق بالسكة كتبها عدد من المثقفين الاردنيين والسوريين. للكتاب طابع تذكاري ولكن له أيضا خفق حنين قديم في قلوب الذين عرفوا سكة الحديد في طفولتهم من بينهم كاتب هذه السطور. فالسكة وصفير القطار وهدير محركاته والباعة المتجولون والأيدي التي تلوّح، والمحطة العثمانية المشيدة بالحجر الأبيض من ذكريات طفولتي الراسخة، المبكرة. أقامت عائلتي على جانبي السكة مرتين. مرة غربيها عندما قطنا في حي "جناعة" العشوائي، ومرة أخرى شرقيها بعد رحيلنا إلى اسكان تابع لمعسكر الجيش. في الحالتين كان علي عبور سكة الحديد كذا مرة في اليوم.. وكان يمكن لخطانا أن تتمدد باتجاه "السبعة جسور" جنوبا حيث ينفتح المدى وتتراجع البيوت. لم يكن هناك أكثر اثارة لنا، كأطفال، من صفارة القطار التي تدوي مع تحركه من المحطة وتظل تصفر كي تبعد الأطفال المهتاجين والحلال والكلاب السائبة عن السكة في المناطق المأهولة من المدينة. كانت تلك الصافرة اشارة سفري الطويل المبكرة. فقد كنت أحسد اولئك القادرين على ركوب القطار ذاهبين إلى مدن ومناطق أكثر اثارة من مكاننا الكسيح الذي تتكرر أيامه ولياليه برتابة وضجر. لم أكن أعلم، وأنا أرى الناس تلوِّح للمغادرين، أن هذا القطار هو الذي سيقلني، ذات يوم، في سفر لن أعود منه الى بلادي إلاَّ بعد نحو أربع عشرة سنة من الغياب.. هرم القطار وشاخ وبحت صفارته وأنّتْ عجلاته وتهلهلت عربات ركابه.. لكن صافرته لا تزال تحدث عندي، كلما سمعتها، الأثر نفسه الذي كانت تحدثه في طفولة حافية لم تكن تعرف ماذا تخبىء لها الأيام..


    أمجد ناصر

    كاتب أردني مقيم في لندن

    * عن الزرقاء تيوز
     بين السيل و السكة         348
    رائدة زقوت
    رائدة زقوت


    عدد المساهمات : 177
    تاريخ التسجيل : 17/12/2010

     بين السيل و السكة         Empty رد: بين السيل و السكة

    مُساهمة من طرف رائدة زقوت 3/2/2011, 2:05 pm

    شكرا لك على هذا الاختيار الممتع عن الزرقاء المكان والذكر يات للكاتب المبدع أمجد ناصر
    تحياتي ومودتي
    أمكنة
    أمكنة
    Admin


    عدد المساهمات : 285
    تاريخ التسجيل : 16/12/2010

     بين السيل و السكة         Empty رد: بين السيل و السكة

    مُساهمة من طرف أمكنة 5/2/2011, 3:10 am

    العفو، ففي هذه الزاوية أحاول أن أضع المنقولات المتعلقة بالمكان
    علي شنينات
    علي شنينات


    عدد المساهمات : 72
    تاريخ التسجيل : 18/12/2010

     بين السيل و السكة         Empty رد: بين السيل و السكة

    مُساهمة من طرف علي شنينات 11/2/2011, 5:08 am

    أمجد ناصر كاتب وشاعر وروائي جميل ورائع / شكرا لاختياركم هذه المادة

      الوقت/التاريخ الآن هو 8/5/2024, 10:07 pm