أمكنة

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
أمكنة

مجلة ثقافية تُعنى بأدبيات المكان


    خصوصــية المكان الشعري

    أمكنة
    أمكنة
    Admin


    عدد المساهمات : 285
    تاريخ التسجيل : 16/12/2010

    خصوصــية المكان الشعري Empty خصوصــية المكان الشعري

    مُساهمة من طرف أمكنة 18/12/2010, 9:44 am

    خصوصــية المكان الشعري



    رشيد يحياوي


    (1)

    لا يضع الشعر حدودا لتعامله مع المكان وتمثله لغويا. فهو محفوف بالمكان ومتفجر به. يحمله في اللغة كما يحمله الشاعر في ذاكرته ومتخيله ووجوده. والقصيدة فضلا عن كونها مكانا للشعر، هي أيضا مكان للشاعر وللتاريخ ولأشياء اليومي ولكينونات الأزمنة التي تغص بها الذوات الفردية والجمعية.
    لهذا فإن من يروم وصف المكان الشعري يصطدم في غالب الأحيان بمتوالية من خرق المعايير التي يتذرع بها الواصف. ذلك أن الشاعر لا يقف عند المكان بوصفه معطى جاهزا لذاته أو حتى لغيره. وحتى حين يجنح بعض الشعراء لاسترجاع أماكن بعينها وجعلها بؤرا لنصوصهم، فإن تشكيلها شعريا ينتهي إلى ضرب من تراكب الأماكن وانشطارها وتشظيها وتداعيها من بعضها حتى كأنها أمواج تتداخل متسعة لاستدعاء أماكن لا حصر لها، إلى درجة أن الأشياء الجزئية تنتقل بدورها إلى شساعات قادرة على احتواء أماكن بحجم ما تتخيله رحابة اللغة الشعرية.
    تواجهنا بالتأكيد صعوبات في فك الحمولة الرمزية للعلامة المكانية داخل النص الشعري. وخاصة أنه ليس لدينا قواميس لسانية لتصنيف وتحديد المعاجم الدالة على المكان في اللغة. وترتيبا على ذلك قد تقع اعتراضات على ربط بعض الكلمات بمرجعيات مكانية. قد نتفق مثلا على التفريق بين فعل مكاني كارتفع وفعل غير مكاني كانتبه. وقد نتفق أيضا على إمكان تحويل الشاعر الفعل غير المكاني إلى فعل مكاني :" انتبــــــه البحر " . لكن ما القول في أفعال مثل : قضم، تدافع، لها، كسر... هل هي ذات مرجعية مكانية تفيدنا في تأويلها داخل سياقاتها النصية الشعرية ؟
    هناك إشكال آخر يواجه قارئ بعض النصوص. ويتعلق بمدى احتفاظ العلامات بمرجعيتها المكانية. حين نقف في نص ما، أمام علامتي الماء والرمل مثلا، قاصدين تحليل وتأويل الصورة، هل نأخذ بعين الاعتبار المرجعية المكانية لهاتين العلامتين، أم نتعامل مع حمولتها الرمزية التي اكتسبتاها من خلال السياق الشعري دون ربط ذلك بالمرجعية المكانية؟
    قد نصطنع لأنفسنا هذا التحديد للمكان داخل الصورة : إنه الامتداد المادي المحسوس للمواقع من جغرافية وعمرانية وسياسية، وكل ما يمكن أن يمثل حيزا يحتوي عناصر أخرى، سواء أكان ذلك على سبيل الحقيقة أم من صنع المجاز والصورة والمتخيل. وحتى في هذه الحالة نظل مستشعرين أن هذا التحديد ينطوي على نقائص وثغرات. فهو :
    - لا يتضمن التنظيمات المكانية : بعيد/قريب، علوي/سفلي...الخ.
    - لا يجيب عن سؤال تحول المكان من مجرد حيز إلى فاعل يتم احتواؤه من طرف مكان آخر كهذا المثال :" غابة ترتمي في الجليد".
    - لا يستجيب لتحول المكان إلى زمن والزمان إلى مكان.
    - لا يحل مشكلة إضمار المكان الذي قد يصل لحد إقصائه. فإذا قال الشاعر :" عيناك غابتا نخيل ساعة السحر"، فإننا نفهم أن العينين تمت "أمكنتهما"، بأن تحولتا إلى غابة، وأن هذه الغابة مقرونة بزمن محدد، وأن العينين اكتسبتا بالتالي الحمولة الرمزية للمكان والزمن المعينين. لكن أين مكان العينين "المتأمكنتين"؟
    في النص الشعري الحداثي تنقلب الأدوار بين أطراف ثلاثة، هي الذات بقيمها ومفارقاتها، والمكان بقيمه ومفارقاته، والزمن بقيمه ومفارقاته أيضا. ولذلك يصبح فضاء لجدل هذه الأطراف في توحدها وانفصالها وحلولها مكان بعضها. هكذا تتحول الذات إلى مكان وزمن ويتحول المكان إلى ذات وزمن ويتحول الزمان إلى مكان وذات. كما تقوم هذه الأطراف بأدوار فاعلية في أنساق الدلالة ونسيج النص متعدية صفات السكون والثبات.
    ينحدر المكان الشعري من علاقات مختلفة. فله علاقة بالذوات التي تشغله أو تنفصل عنه كالمكان المشترك والمكان الخاص، وكالمكان البعيد والقريب، ومكان العتبة والحد، ومكان الداخل والخارج، وله علاقة بالحركة والثبات كمكان الأفعال والحدث ومكان الأشياء التي تبدو ثابتة في ظاهرها، وله علاقة بالقيم التي تنتجها الذات الفردية والجمعية، كالمكان الثقافي والسياسي والاجتماعي والمديني والريفي والديني، والمكان الأليف والإيجابي، وله علاقة بالعوامل الضاغطة على الذات، كالمكان المعادي والسلبي، ومكان الغربة أو الاغتراب، ومكان السجن...
    وفضلا عن انحدار المكان من أمثال هذه العلاقات، فإنه ينحدر أيضا من أنواع مختلفة تبعا لطبيعته ومرجعياته وتشكلاته الشعرية، فيكون مرجعيا وأسطوريا وذهنيا ونفسيا ومجازيا وحلميا... كما يكون ضيقا أو واسعا، عاليا أو منخفضا، عميقا أو سطحيا، مغلقا أو مفتوحا، دائريا أو ممتدا...
    وترتيبا على ذلك يتقلب المكان في تشكيله الشعري في صيغ أنساق وأنواع مكانية مختلفة، ما بين أماكن مرجعية متواطأ على مكانيتها، وأماكن تحولت كذلك بواسطة الصوغ الشعري "فتأمكنت"، وأماكن كائنة مقابل أخرى ممكنة، وأماكن حاضرة مقابل أخرى غائبة أو مضمرة وأماكن مركزية مقابل أخرى ثانوية (نوظف صفة ثانوية إجرائيا).
    إن ما نسميه بالمكان المرجعي هو المكان المتواطأ على مكانيته، أي الذي سبق للمتلقي أن كون عنه مفهوما مكانيا أو صورة مكانية معينة قبل قراءة النص المقصود. إنه مكان يوجد بشكل أو بآخر في التمثل الواقعي للمكان، وله وجود فيزيقي فيه.
    ونقسم المكان المرجعي إلى مكانين فرعيين : الأول هو المكان المرجعي الخاص، وهو ذلك الذي له تحديد سياسي أو عمراني أو جغرافي معين يطبعه بتسمية تخصه وتميزه من غيره من الأماكن المخصوصة. ويكون إدراك المكان المرجعي الخاص في النص الشعري في صيغتين : إما بالتأشير عليه باسمه، مثل "بيروت" في "مديح الظل العالي" لدرويش، أو نحدده من خلال قرائن نصية وخارج نصية مثل « فلسطين » في مجموعة من قصائد نفس الشاعر.
    أما النوع الثاني فهو المكان المرجعي العام. وهو المكان الذي :
    أ – لا هوية له إلا صفته الطوبغرافية أو الجغرافية، دون أن يكون مميزا بتخصيص اسمي بوصفه اسم مكان. هذا النوع من الأماكن أكثر شيوعا لأن الشاعر لا يتقيد فيه بمرجعية خاصة بمكان معين. كلما واجهنا في هذا الإطار علامات مثلا : جبل، جليد، مدينة، مغارة، سماء...إلخ، كنا في صلب المكان المرجعي العام. بيد أن تحديدنا هذا نرجو ألا يفهم منه أن المكان المرجعي يحتفظ بواقعيته في النص، وأن هذا الأخير ينهض بوظيفة محاكاة الأصل. إن ما يشغلنا في دراسته هو استقصاء تشكله في تحوله إلى مكان نصي لا يكتسب هويته الجديدة إلا داخل المركبات اللغوية.
    ب – والمكان المرجعي العام هو أيضا المكان الذي اتصف بالمكانية لكونه قطبا في علاقة مكانية. فإذا قلنا في هذا السياق : العالي، العميق، البعيد، الدائري...الخ، فنحن نؤشر لمكان مرجعي عام.
    يقول محمد الخمار الكنوني:
    "ها أنتم تحت الأرض
    البعث أو ميلاد آخر من هذا الرحم الأرضي؟
    أأقول: بعيدا؟
    إن الأرض أمامي يا أهلي : موت في موت، قبر في قبر."

    في هذا المقطع أماكن مرجعية عامة متواطأ على مكانيتها. وقد أخلص المقطع بدوره لهذا التواطؤ بدءا من السطر الأول حيث الأرض مكان. بيد أن الشاعر سيستثمر هذه المرجعية لأجل انزياحات أنقذت المقطع من محاكاة التمثل الواقعي. بذلك تمنح الذات المتكلمة نفسها انفصالا معينا عن مخاطبها انطلاقا من علاقة : أنا والأرض / أنتم والأرض:

    - أنا والأرض ( علاقة أفقية): أنا هنا والأرض أمامي.
    - أنتم والأرض ( علاقة عمودية): أنتم أسفل والأرض أعلى.

    الوجود السفلي للمخاطبين لم يرتب عليه المتكلم وصفهم بالدونية. بل جعل وجودهم ذاك موضع سؤال حول إن كان سيفضي بهم للانتقال من الأسفل نحو الأعلى، موظفا روح الأسطورة البعثية، فقام بتحويل الأرض إلى جسد أنثوي، مشاكلا بين المكانين في الدائرية والانغلاق واحتواء منبع الخصوبة والحياة. علاقة المخاطبين بالمكان المرجعي العام (الأرض - الرحم)، هي إذن علاقة حياة محتملة. وتشكلها المكاني العلائقي ينطوي على الامتداد من الأسفل نحو الأعلى.
    أما المتكلم فيعمق صلته بالأرض بزيادة صفة مكانية أخرى لها، مستثمرا علاقة كل/جزء. وبذلك أحدث نوعا من الخلخلة المكانية. لقد أصبحت الأرض قبرا. وانتقلت لتمتد أمامه. فقدت الأرض إذن إطلاقها ودخلت في المفارقة، فهي ممتدة بوصفها أمامه، وهي محصورة بوصفها قبرا. أما هذا القبر فانتقل من مكان للجثث إلى مكان للقبر:" قبر في قبر".
    لقد قام المكان الأرضي بوظيفة وسيط دلالي بين مكانين ضديين هما: مكان الحياة الذي هو الرحم، ومكان الموت الذي هو القبر. الانتقال من دلالة لدلالة خضع لعلاقة الذاتين بالأرض. فحين ترى ذات المتكلم إلى نفسها تجد الموت علامة للمكان، وحين ترى إلى ذات المخاطبين تجد الحياة علامة محتملة لمكانهم. إنها استعارة بسيطة ومباشرة لإحدى دلالات الأسطورة التموزية.
    في نص لعبد الكريم الطبال، نقرأ :

    "امراة من البهاء
    على سرير من رفرفة الحرير
    تضع رأسها
    أو مهجة البستان
    على وسادة من ريش الفجر."

    في هذا المقطع مكانان وظفهما الشاعر بما يمنحهما الدلالة على الحيز واحتواء الحالة أو الفعل. وهما السرير والوسادة. فالسرير حيز للمرأة، والوسادة حيز للرأس. لا يهمنا هنا على كل حال مدى الخلخلة التي أحدثها الشاعر في تلقي المكانين أو مدى حفاظه على وظيفتها التقليدية. بيد أنه لابد أن نشير إلى أن الشاعر أضفى عليهما سمات من المتخيل الشعري بأن جعل السرير لامرأة من البهاء وجعل الوسادة من ريش الفجر.
    بيد أنه رغم هذه الصفات الاستعارية في مقطع الطبال والخلخلة النسبية في مقطع الكنوني، فإن الشاعرين ظلا معا أسيري الصفة المكانية للمكان المرجعي العام بوصفه حيزا. وبذلك ظلت درجة خرقهما لتلك المرجعية محدودة. وخلاف ذلك ما نراه في هذا المقطع لشوقي عبد الأمير:

    "غابة ترتمي في الجليد
    لا موجة تذكر النهـر
    لا شمس غير انطفاء السماء
    ولا طير إلا كرات الجليد
    ترى كيف كنت تسيل كماء
    وتدنو كنـــار."

    لنلاحظ أن في هذا المقطع مجموعة من العلامات المؤشرة لأماكن وهي بصفة خاصة : غابة، الجليد، النهر، السماء، ماء، نار. لكن الشاعر لم يوظف التجلي المكاني لكل هذه العلامات. وبمعنى آخر، لم يحافظ في جلها على إفادتها الحيز المتواطأ عليه على حد ما رأيناه في المقطعين السالفين.
    أما ما حافظ فيه الشاعر على مكانية الحيز فهو : الجليد والسماء. الجليد حيز للغابة ولكرات الجليد، والسماء حيز للشمس. لكن علامات الغابة والماء والنار لم تخضع لهذا التوظيف، فالغابة أصبحت فاعلا حيزه هو الجليد، أما الماء والنار ففاعلان في مكان مضمر. نتساءل مثلا : أين يسيل الماء؟ أين تدنو النار؟
    في هذا المقطع يوظف الشاعر إذن العلامة المكانية ذات المرجعية العامة دون أن يجعلها حيزا لتجلي الحدث أو الحالة. ثم إنه إضافة إلى ذلك، يقودنا لكي نميز بين نوعين آخرين للمكان، هما المكان الحاضر الظاهر والمكان الغائب المضمر. فالمكان الظاهر يمثله الجليد والسماء، أما المكان المضمر فيمثله مكان الماء ومكان النار.
    يقول أحمد مدن:

    "المساء يتسكع في الورقة
    ويلقي خرائطه في يدي
    ويصحب نوم يـدي
    يغـور
    عميـقا
    عميـقا
    باتجاه الصباح."

    حول الشاعر علامتين لا تفيدان المكان المرجعي العام إلى مكان. وهما الورقة واليد. فالورقة مكان للمساء، واليد مكان للخرائط. صفة هذا المكان أو نوعه أنه ظاهر. في مقابله يوجد مكان غائب أو مضمر. إنه المكان الذي يصحب فيه المساء يد المتكلم ويغور عميقا. يلاحظ أن:
    - الورقة واليد مكانان للزمن.
    - الزمن يتأمكن إما بالحلول في المكان، أو بالتسكع، أو بالخرائط.
    - الزمن (الـمساء) يتجه عبر المكان نحو الزمن (الصباح)
    - الحركة النزولية الظاهرة تنتظم في جدل عميق مضمر؛ فالمساء نزول وتلاش وفناء، والصباح بزوغ وتنام وحياة.
    هذا المقطع مخالف للمقاطع السابقة من حيث عدم ركونه إلى الأماكن المرجعية العامة، لقد خلق أماكنه النصية الخاصة مشغلا جدل الزمن والمكان في حركة مكانية خارقة : المساء في الأعلى / الصباح في الأسفل. غير أن المكان المرجعي حتى في خصوصيته، يمكن أن يستثمر شعريا ليكون بدوره مرتكز خلخلة للنسق الذي يحكم الذات بالمكان. هذا ما نراه في مقطع لمحمد بنيس : " قل آن لمراكش أن تستوطننا."
    إن المكان المرجعي الخاص في هذا السطر هو هذا الذي تشير إليه علامة "مراكش". هذا المكان يحتمل استبدالات لغوية عديدة ضمن البدائل الوظيفية لمقاصد الإنسان منه. والشاعر لم يخرق تلك البدائل، بل ظل في حدودها بأن حافظ على وظيفة استيطان المكان. بيد أنه لم يحافظ على هذه الوظيفية إلا لكي يخرقها. فضاء الخرق يتمثل بالذات في علاقات الثالوث: المكان والاستيطان والإنسان. لقد قلب المتكلم في النص العلاقة المكانية بين المتكلم والمكان. لم تعد مراكش حيزا بل ذاتا داخل حيز جديد تمثله العلامة "نا" في فعل "تستوطننا". الفاعل إذن هو المكان والمفعول هو الإنسان. وبدل أن يحل الإنسان في المكان، دخل المكان في الإنسان الذي أصبح هو المكان.
    ماذا تمثل مراكش بوصفها فضاء مدينيا له ما يسمه من خصوصيات اجتماعية وعمرانية وتاريخية، وما هي القيم الثقافية والرمزية التي حلت بواسطته في الأنا؟ هذا سؤال لا يملك السطر المثبت أن يجيب عنه. فسياقه يستمده من نصه "مواسم الشرق". أما نود أن نضيفه في سياق هذا الاقتطاع الجزئي، فهو كون السطر المذكور يفصح عن مكانين فرعيين نضيفهما كنوعين ضمن التعدد النوعي الممكن للمكان. نقصد التمييز هذه المرة، ليس بين مكان مضمر وآخر ظاهر، بل بين مكان كائن وآخر ممكن. أي تبعا لوضعية كل مكان داخل زمن خطاب النص المعني: فمكان الآن هو الكائن أي مراكش، ومكان الغد هو الممكن أي نحن.
    إن "نحن" تنتقل إلى مكان لفعل مكاني يقوم به مكان. في الشعر القديم لانعدم أمثلة ترد فيها أماكن بشرية وتعامل في التركيب النحوي نفس المعاملة. لكن الفارق هو في كون الأمثلة القديمة أعطت لهذه الأماكن صفة المجاز بمحدوديته البلاغية الكلاسيكية. حيث لا يقصد المكان في ذاته بل ساكنوه والحالّون فيه. فالنادي، لا يقصد به مثلا المكان بل الحالون في المكان.
    أن نتحدث عن المكان بوصفه المجال الذي تتموقع داخله الذوات أو تنتقل بينه أو تجري فيه الأحداث، يعني أننا داخل المكان السردي الذي له مواضعاته التي ليست بنفس تعقيد المكان الشعري حتى حين يكون هذا الأخير سرديا وإن هناك بالتأكيد تماثلات مكانية؛ ففي الأعمال السردية توجد أماكن نعدها مركزية وهذا النوع من الأماكن نلفيه بصيغ أخرى في الشعر. ذلك أن بعض نصوصه تتخذ لها مكانا بعينه تجعله مركز الوقائع اللغوية المجازية، وإن شئنا بتعبير لا نحبذه نقول إنه البؤرة التي تفجر أحاسيس الشاعر أو ذكرياته فيدير حولها ما يسجله من صور وما يثبته من حالات. في هذا المكان المركزي تتحرك إذن سلاسل الصور والعلامات والمدلولات. كمثال على ذلك نقدم هذا المقطع من نموذج لعبد الوهاب البياتي يحمل عنوان " سوق القرية":

    "الشمس، والحمر الهزيلة، والذباب
    وحذاء جندي قديم
    يتداول الأيدي، وفلاح يحدق في الفراغ:
    "في مطلع العام الجديد
    يداي تمتلئان حتما بالنقود
    وسأشتري هذا الحذاء"
    وصياح ديك فر من قفص، وقديس صغير:
    " ماحك جلدك مثل ظفرك" و"الطريق إلى الجحيم
    من جنة الفردوس أقرب "والذباب
    والحاصدون المتعبون:
    "زرعوا، ولم نأكل
    ونزرع، صاغرين: فيأكلون"
    والعائدون من المدينة : يا لها وحشا ضرير !"

    في هذا النص مكان مرجعي عام هو سوق القرية وهو في الوقت نفسه مكان مركزي في النص. الشاعر حافظ على مرجعية المكان ووظفه باعتباره حيزا. لكنه لم يربطه بسرد محبوك، بل بأشياء وحالات وأحداث مبعثرة. كلها له موقع في السوق. النص في مجمله ذو صيغة مشهدية فيها حرص على التقاط تفاصيل المكان وما يجري فيه. ومن خلال تلك التفاصيل يتم استدعاء أماكن نعدها ثانوية مقابل المكان المركزي. نقصد، الطريق، الجحيم، جنة الفردوس، المدينة. إذا كانت هذه الأماكن ثانوية مقارنة بهيمنة المكان المركزي نصيا، فإن وضعها العلامي يجعلها أساسية في دراسة المكان المركزي نفسه، وخاصة حين ننفتح في الدراسة على تقابل: الداخل/الخارج. أي ما يوجد داخل السوق وما يوجد خارجه. وهذا ما يضفي خصوصية على المركزية المكانية في الشعر، إذ أنها قابلة للتشظي والتشتت إلى أماكن عديدة.
    هذا النوع من الأماكن الثانوية يوجد في السرد أيضا. حيث نواجهها من خلال ملفوظات مثل الحوار والتذكر والتداعي والمقارنة. أما في الشعر، فيبدو لنا أن هذا النوع من الأماكن هو السائد. ولا نجد له في الغالب ما يقابله من أماكن مركزية داخل فضاء النص اللغوي، إذ لا يكون النص مقيدا فيه بمجريات السرد وإلزامات الشخصيات. العمل السردي إذا تحول إلى هذا النوع أصبح مفككا وفوضويا، إن لم نقل إنه يخرج من السرد الروائي إلى سرد مغاير يحتاج كفاءة قرائية تعيد اتساقه.
    وهذا المقطع لمحمد بنيس يمثل المكان الشعري غير الممركز:

    " هـا نصفي الأعلى تسلقه الحديد رأيـتني أنسل
    من حجري وأمسك باليدين الرأس أفـرغ بؤبؤا لعين
    في الشباك أيتها الزنازن لن تطيقي شهوة الكلــــمات
    مازالت تحيتها بريقا شاردا بيني وبين البـاب
    جرحا صامتا يصغي إلى الأحباب يا غيم استرح تلك
    التي رافقتها زمنا تطول فروعـــــه انتـــــصبت على
    الجدران فالقضبان هيئة صحوهم سبـحان مــن
    سوى جبينك نخلة تهتز في حشـد القـرى."

    إن النص يمضي في هذا التوالي اللا محدود للأماكن بمختلف أنواعها دون أن يمركز حول واحد منها، اللهم إلا إذا انتقلنا إلى مستويات أعمق من القراءة باحثين عن أشكال الاتساق النصي واصفين المقطع ضمن سياقه الأعم أي نص "مواسم الشرق". لقد توازى هذا التعاقب اللغوي للأماكن والحالات المكانية مع تعاقب لغوي تركيبي حرص فيه الشاعر على استرسال الجمل دون التميز بينها بعلامات الترقيم.
    أما إذا رمنا تبين الأماكن المذكورة في المقطع فنحددها كالآتي:
    - النصف الأعلى مكان يتسلقه الحديد
    - الحجر مكان انسلال الذات
    - الشباك مكان يفرغ فيه بؤبؤ العينين.
    - الزنازن مكان شهوة الكلمات.
    - بين الذات وبين الباب مكان التحية والأحباب.
    - مكان مضمر لاستراحة الغيم وهو مكان ممكن.
    - الجدران مكان انتصاب الغائبة.
    - حشد القرى مكان النخلة.

    (2)

    الأماكن التي ذكرناها في هذا المبحث اقتراحات توخينا منها الإشارة إلى ما يحتمله المكان الشعري من تعدد في أنواعه وعلاقاته. إنها اقتراحات اصطلاحية ضمن أخرى ممكنة. يمكن الاستعانة بطبيعة الحال بالأنواع المكانية التي حددتها الدراسات السردية، كلما تحمل النص وجود ما يماثل تلك الأماكن. إن النص يبقى في كل الحالات هو مقرر مصير أماكنه. هو خالقها وشاغلها ومعمرها. هو من يملأ حيزها أو يفرغه، وحسب وعيه بالمكان" يتأمكن" المكان وينخرق.
    هل يمكن لنا إذن أن نتحدث عن خصوصيات للمكان الشعري، لا شك في أن المكان الشعري له خصوصيات معينة، وإلا لما جازت مقارنته بأماكن غير شعرية. أي أماكن صيغت بلغات غير شعرية. وهذه الخصوصية المتمثلة في نمط الاستخدام الشعري للغة وتشكيل المقاصد لها مداخل مختلفة لتحديدها. ونقترح مثلا أن ننظر إليها انطلاقا من ثلاث جهات هي النوعية والماهية والرؤية.
    أ - النوعية: إن حصر أنواع المكان الشعري يبدو مستحيلا وخاصة إذا رمنا الأنواع المتشعبة في مجمل النصوص الشعرية، لأن أماكنها تتعدى كثرة الأماكن الواقعية. فكل الأشياء بما فيها غير المكانية تقبل في الشعر الانتقال إلى حيز مكاني. إذا المكان الشعري ينحدر كما ذكرنا من أنواع وعلاقات عديدة. وهذا يجعلنا نستنتج أن المكان الشعري من جهة نوعيته يتميز بخاصيتين هما قابلية "التأمكن" والتشظي. وبإدراكنا للخاصية الأولى يتسع مفهومنا للمكان الشعري ليتعدى الأماكن الجغرافية والعمرانية والاجتماعية والبنيات المكانية المعهودة إلى جملة الاشتغالات المكانية بما في ذلك الأماكن الذهنية والنفسية والمجازية والمضمرة في الأفعال الحدثية، والجزئيات والأشياء الصغيرة التي تنقلها لغة الشعر إلى شساعة مكانية لا حصر لها. لأنها بالشعر تصبح قابلة للتحول لمكان، أي أنها به "تتأمكن".
    والخاصية الثانية المرتبطة بنوع الأماكن في قابليتها للتأمكن هي خاصية التشظي. والمقصود بذلك أن المكان الواحد يتحول إلى شظايا مكانية منشطرة بدورها. مما يتنافى في جل النصوص الشعرية مع الثبات ووحدة المركز على حد ما نواجهه في جل السرود الروائية والقصصية النمطية، بالنظر إلى تلازمها مع الحدث. الشعر بخلاف ذلك قد لا يعين أي خلفية أو مكان للحدث، فإذا أضمره في الفعل انفتح في تلقي القارئ على أماكن محتملة كثيرة، وحتى في حالة تصريحه به، فإن تداعيات الصور والأفعال يجعل النص عبارة عن انشطارات مكانية تبعا للأشياء والأفعال والذوات. من أمثلة ذلك هذه الأسطر من مقطع شعري أوردناه سالفا :

    "غابة ترتمي في الجليد
    لا موجة تذكر النهر
    لا شمس غير انطفاء السماء."

    ففي هذه الأسطر يخلق الشاعر مكانا قد يوصف حسب التأويلات بأنه مكان سياسي أو اجتماعي أو حضاري. وقد يوصف أيضا بأنه مكان مأساوي أو عدمي. وهذا المكان وليد موقف الشاعر من الوجود حوله. ولكن هذا المكان تشكل بناء على تشظيات مكانية متعددة بحيث تحولت الأسطر إلى متوالية من الأماكن المتداعية في الصور انطلاقا من أسماء مكانية تحدد أماكن مرجعية عامة أو من أفعال مكانية (غابة - ارتماء - جليد- موجة - نهر - شمس - سماء). وهكذا فإن تشظي الأماكن الشعرية يتلازم مع تداعيات وتوالدات الصور والمشاهد والذوات والأفعال والحالات.
    ب - الماهية : المقصود بماهيته المكان حقيقته وما تتألف منه مادته وبنيته. في هذه الحالة لابد من استحضار الخاصيتين السابقتين، أي قابلية التأمكن والتشظي. فبسبب هاتين الخاصيتين يصبح المكان كثرة لا وحدة إلا إذا تحدثنا عن العالم والكون بوصفهما مكانا عاما تنصهر فيه رؤية الشاعر للأماكن الصغرى. وحتى حين يكون هناك مكان يبدو مركزيا في بعض النصوص كما في نص "سوق القرية" للبياتي، فإن هذا الإطار لا يكون في الأصل سوى صيغة لأماكن كثيرة. فالنص لا يقف عند المكان الواحد إلا بوصفه بؤرة للتشظي والانشطار مما يجعل النص في الأخير عبارة عن شتات من الأماكن. وهذا يعني مواجهتنا إما لمكان لشتات الأماكن مثل "سوق القرية" أو لشتات الأماكن. وفي الحالين تتعرض مادة الأماكن للتشتت بانشطارها إلى أماكن كثيرة. وهذا يعني أن حقيقة المكان وماهيته هي التشتت.
    إن تشتت الأماكن الشعرية لا يعني تحولها إلى جزر منفصلة، فبخلاف ذلك تتسم طبيعتها المتشتتة بخاصية ثانية هي الاختراق. فبحكم عاملي التأمكن والتشظي، يحول الشعر أماكنه إلى فضاءات وبنيات تخترق بعضها مستعينة بفاعلية الاستعارة والمفارقة والتضاد والتلقي. هكذا ينتفي مثلا التباعد في الحيز بين الأماكن النارية وبين الأماكن المائية، بين الأماكن السماوية وبين الأماكن الأرضية، بين مكان الجسد وبين مكان الجغرافيا، بين مكان الذات وبين مكان الكون الأول. يتم اختراق العلوي من طرف السفلي، والخلفي من طرف الأمامي، والبعيد من طرف القريب، ومكان المستقبل من طرف مكان الماضي... بل إن المكان الواحد يتشتت وينشطر ويتعرض لاختراقات بنيات وأماكن مضادة كأن يصبح المكان السفلي مكانا علويا وسفليا، أو يصبح المكان العلوي السماوي حيزا لفاعلية المقدس والمدنس، العالي والوطيء، البعيد والقريب، بسبب المفارقات وفاعلية الاستعارة والتشظي.
    إن التشتت والاختراق خاصيتان أساسان إذن لماهية المكان في الشعر، من حيث المادة التي تكونه والبنيات والأنساق والتقاطبات التي تنتظم فيها تلك المادة بحيزها وذواتها وأفعالها. فالمادة نفسها ليست في الشعر شيئا جامدا، بل خاضعا لخاصية التأمكن التي تحول حتى النفسي والذهني والمجازي إلى مكان مشروخ منشطر.
    ج - الرؤية : يرى الشاعر مكانه بالبصر واللغة والتخيل والحدس والذاكرة والقيم. ونقصد - إجمالا - برؤية المكان الكيفية التي تمثل بها الشاعر والذوات النصية أماكنهم. فهذه الكيفية تحدد علاقة الذات بالمكان وطريقة إدراكها له وتفاعلها معه. ولابد في هذه الحالة أيضا من مراعاة الخصائص السالفة. لأن الذات في الشعر تتعرض بدورها لما تتعرض له الأماكن، فيلحقها التأمكن والتشظي والتشتت والاختراق. فالذات بوصفها جسدا وذاكرة ومتخيلا وقيما تتشظى إلى ذوات وأماكن، بل إنها قد تصبح شتاتا من الأماكن أو مكانا من الشتات المكاني مخترقا بالعوالم والأجساد والأكوان والجغرافيات، فضلا عن الأحداث والأفعال. ولأن الأماكن ليست منفصلة بالضرورة عن الذات، فإن علاقتها بها تجعل خاصية الاختراق مشتركة بينهما في تشظيهما. فالذات تتشظى في الأماكن والأماكن تتشظى في الذات، ويترتب على ذلك كون الأماكن التي يقدمها النص تنطبع برؤية متسمة بخاصيتين، هما كونها رؤية قلقة وعبورية.
    إن الذات لا تبدو مطمئنة للأماكن بل قلقة في رؤيتها لها، والقلق هنا بمعنى فعل البحث والمساءلة لا التماهي والثبات. وهكذا فإننا حتى في الحالات التي نواجه فيها ذاتا مطمئنة في الظاهر لأماكن تعد بالنسبة لها أماكن ألفة واطمئنان، فإننا في العمق نكتشف أن مصدر ذلك قد لا يكون سوى حضور للذكرى أو انبعاث للأمل، وهما معا دليل على قلق دفين يخلق تداعيات بين الماضي والحاضر والمستقبل، بين مكان "الهنا" ومكان "الهناك"، بين مكان اللحظة وبين مكان الذكرى...فالقلق عامل رئيس في خلق شعرية الأماكن. لأن الشعر بقلقه يخترق الظاهر والسطحي متسائلا بصيغة معلنة أو مضمرة عما توارى خلف اليومي والمباشر حتى و إن بدا أنه لا يتعمد ذلك.
    فالذات بقلقها تخترق المكان وتنخرق به. فيصبح المكان عندها - مهما بدا راسخا وثابتا، أو رحيما وأليفا - مكانا لفعل عبور دائم نحو مكان جديد أوحالات وأفعال جديدة. عبور مستمر بين الشظايا والشتات نحو مكان للحلم أو للذكرى أو المـتعة واللذة أو لواقع مختلف. ولن يكون المكان الثاني بدوره سوى معبر لمكان ثالث....
    إن خاصية العبور هذه لا تطبع رؤية المكان كما تتمظهر في النصوص وحدها، بل يمكن عدها رؤية للوجود والكون بصفة عامة. فالشعر يتأسس أصلا على البحث والمساءلة لأنه وليد قلق كوني غائر في أصقاع الذات السحيقة. فالذات لا ترى الكون سوى بوصفه فضاء عبور دائم يتم بفعل الاختراق، اختراق المكان نحو آخر، واختراق ظاهره نحو باطنه، واختراقه نحو ضده ونقيضه، اختراق أيضا للقيم واللغات والذكريات والحدوس والاستشرافات، واختراق للأشياء والأجساد والكينونات.

    .................................

    ولد سنة 1961 بابن سليمان، تابع دراسته العليا بفاس حيث حصل على الإجازة في اللغة العربية وآدابها سنة 1984. التحق بكلية الآداب-جامعة عين شمس بالقاهرة حيث حصل على الماجستير سنة 1988. يشتغل أستاذا بكلية الآداب بأكادير.

    بدأ النشر سنة 1985 بمجلة القاهرة، نشر أعماله بعدة منابر: العلم، الاتحاد الاشتراكي، أنوال، القدس العربي، آفاق، الوحدة، أدب ونقد، آفاق عربية…

    يتوزع إنتاجه بين الكتابة النقدية والمقالة الصحفية بالإضافة إلى كتاباته الشعرية.

    أصدر مؤلفين:

    - مقدمات في نظرية الأنواع الأدبية، إفريقا الشرق، البيضاء، 1991.

    - الشعرية العربية، البيضاء، إفريقا الشرق، البيضاء، 1991.

    - شعرية النوع الأدبي: في قراءة النقد العربي القديم، إفريقا الشرق، البيضاء، 1994.

    - الشعر العربي الحديث: دراسة في المنجز النصي، إفريقا الشرق، البيضاء، 1998.

    - القاهرة الأخرى (يوميات)، وكالة الصحافة العربية، القاهرة، 1997.

    - الشعري والنثري: مداخل لأنواعية الشعر، منشورات اتحاد كتاب المغرب، الرباط، 2001.



    خصوصــية المكان الشعري Usouso10

      الوقت/التاريخ الآن هو 10/5/2024, 3:54 am