أمكنة

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
أمكنة

مجلة ثقافية تُعنى بأدبيات المكان


    ذاكرة المكان في شعر السياب

    أمكنة
    أمكنة
    Admin


    عدد المساهمات : 285
    تاريخ التسجيل : 16/12/2010

    ذاكرة المكان في شعر السياب Empty ذاكرة المكان في شعر السياب

    مُساهمة من طرف أمكنة 24/1/2011, 9:48 am

    بقلم الدكتور جاسم العراقي

    ذاكرة المكان في شعر السياب
    للمكان اهمية في التجربة الشعرية فهو ذو تماس عميق ومباشر بالأدب والحياة الاجتماعية ، وهذا ما نجده في شعر السياب، فقد تعامل مع الأمكنة والأشياء فيها لا لمجرد أنها استفزته أو أنه كشف فيهما ما ينمي قدرة الحدس لديه ، وإنما تعامل معها لحظة وجوده الكامل فيها. ولهذا فهو من الناحية المعرفية امتلك القدرة على تجاوز المحدود (الذاتي)إلى المطلق(الكوني) ، عبر ذاته الرائية التي شقت طريقها إلى العالمية عبر ملامح بيئته المحلية.
    يتموضع حضور المكان عند السياب ضمن فضاءين رئيسين هما (القرية والمدينة) فالسياب ولد عام 1926م في قرية صغيرة تدعى جيكور وهي قرية في البصرة ، في جنوب العراق . هكذا كانت صلته الولادية بأرض جيكور ، فجيكور عند السياب هي الفردوس المفقود. بسبب المدينة التي دخلها ، وهنا تتم الموازنة بين القرية والمدينة فكانت جيكور هي ذات الشاعر في التربة حيث غرست ونمت ،إنها ذاته ككل ، بل إنها الشاعر في الطبيعة متحدا بالماء والهواء والصباح والليل والأشجار والأثماروالأزهار وبالناس من أهل وأصدقا . وربما كان كمون الشاعر الثقافي يتوجه نحو تمركزه وحبه لجيكور ، وليس ببعيد تصور حصول تماه بين شخصية أمه و جيكور قريته ولذا فهو يحب جيكور حبا كبيرا، فهو يقول في قصيدة (أفياء جيكور) :
    أفياءُ جيكور أهواها
    كأنها انسرحتْ من قبرها البالي،
    من قبر أمي التي صارت أضالعها التعبى وعيناها
    من أرض جيكور. .ترعاني وأرعاها.
    وهذا ما رسخ ثقافته القروية ، فكان عندما يعود من بغداد يرغب في رؤية جيكور قرية الطفولة . وقد وجد واقعها ليس كما يتمنى فجاء يسألها أن ترجع إليه طفولته فهو يقول في قصيدته ( أفياء جيكور ):
    جيكور .. ماذا ؟ أنمشي نحن في الزمنِ
    أم أنه الماشي
    ونحن فيه وقوفٌ؟
    أين أوله
    وأين آخره؟
    هل مر أطوله
    أم مر أقصره الممتد في الشجنِ
    فلا شك في أن السياب يرى في جيكور مهد طفولته كما يقول غالب هلسا إن البيت القديم بيت الطفولة ، هو مكان الألفة ، ومركز تكييف الخيال ، وعندما نبتعد عنه نظل دائما نستعيد ذكراه، ونسقط على الكثير من مظاهر الحياة المادية ذلك الإحساس بالحماية والأمن اللذين يوفرهما البيت وانطلاقا من تذكر بيت الطفولة تتخذ صفات وملامح المكان طابعا ذاتيا ، وينتفي بعدها الهندسي

    نجد السياب يدعو للمنزل والقبر بالسقيا فيقول :
    ألا يا منزلَ الأقنان ، سقتك الحيا سحب
    تروي قبري الظمآن، تلثمه وتنتحبُ!
    وهو يقول: فمن يفجر الماءَ منها عيوناً لتبنى قرانا عليها؟
    ومن يرجع الله يوما إليها؟
    فذات الشاعر تخاطب المكان القديم (الذات) وقد يتحول المكان إلى / الآخر العدائي بحمله القيم المبخسة للذات ولكل ذات إنسانية النزعة ، وتتجلى في سياق النص السيابي علاقة ثقافية تظهر بدائية ( الماء ) وما له من قابلية على بعث الحياة من جديد ، فموقف السياب ـ كما يبدوـ لم يكن عدائيا للمكان لذاته وإنما كان العداء لما يرزح به من معطيات وتجليات اجتماعية واقتصادية ، لذا يظهر حبه للريف بل يعده ( الإله ) الذي يجب إعادته إلى المدينة . أي القيم والفضائل الاجتماعية والإنسانية . وربما جاءت رغبته في عودة نقاء الريف استجابة لنسق ثقافي ( طفولي ) أو استجابة لنسق ايديولوجي فكري ، تمثل في أن المدينة استهلاكية بينما الريف إنتاجي ،والمدينة تفضي إلى التبعية للحكام في حين يمثل الريف الحرية .
    إن رؤية العالم هي موقف من حياة الواقع ، هي نظام من الأفكار والتصورات والنظرات في العالم المحيط ، ولما كانت اللغة هي التي تصوغ رؤية الشاعر إلى العالم ، فإن لغة السياب في أبنيتها الثيماتيكية ( الموضوعاتية ) في غالبية قصائده لغة مشحونة بقبسات ونفحات إنسانية كونية ، ممتدة سقفا وفضاء على مختلف العصور فهو يدعو إلى التصالح الإنساني ونبذ الحروب المؤذية للنفس الإنسانية بصفته شاعرا حداثيا ضد اسلوب تدمير المكان الزراعي ، فـالسياب يدعو عمليا إلى المحافظة على حضارة القرية التي توشك أن تزول ) .
    إننا نرى أن العلاقات المكانية في شعر السياب ( القرية – المدينة ) تقوم بوظيفة الكشف عن جوهر التغيرات التاريخية وكذلك ما يرتبط بها من تحولات اجتماعية وثقافية ، وهذا ما أظهر القرية مؤنسنة وجعل المدينة خالية من رداء الإنسانية .إذ نجد السياب يضع الصلة – صلته هو مع المدينة – في إطار محدود غالبا ما يقوم على ( الضدية ) أو على تمثل ( الوجه النقيض ) للمحيط الذي يريد .. وقد بدا السياب ( خط الافتراق) هذا مع المدينة في قصيدته ( المومس العمياء ) التي تتداعى فيها الصور لنبذ واقعها .
    الليل ُيطبق مرة أخرى ، فتشربه المدينه
    والعابرون ، إلى القرارة .. مثل أغنيةٍ حزينه.
    وتفتحت ، كأزاهر الدفلى ، مصابيح الطريق ،
    كعيون (( ميدوزا )) تحجر كل قلب بالضغينه،
    منتهى الحلم تملكه في العودة إلى جيكور ، وهي الغاية الإنسانية التي سعى إليها لإنقاذ نفسه من (حضارة) المدينة التي تصورها حصارا يسعى إلى تجريده من إنسانيته. فهو يصفها بأنها وحش يلتهم المعاني الإنسانية ،ولذا تمنى العودة إلى جيكور بسبب التغيرات في المجتمع الجديد :
    ويمناي : لامخلبٌ للصراع فأسعى بها في دروب المدينه
    ولا قبضةٌ لابتعاث الحياة من الطين..
    لكنها محضُ طينه.
    وجيكور من دونها قام سورٌ
    فبنية المكان الموضوعي بالرغم من كل شي تظل استعارة تشع بالعديد من المشاعر والرؤى والأفكار المحتملة ، يعبر من خلالها الشاعر عن إحساسه الشقي بالعالم الحاضر ، ورغبته في بناء عالم مواز للعالم القديم (مكان الماضي) حيث البراءة ، والأمن ، والدفء ، والطمأنينة .
    أما الوجه الثاني لرؤيا السياب الجيكورية . فقد تجلى في إيجاد وخلق يوتوبيا خاصة به ( جيكور ) التي عاد إليها كوسيلة اتصال مع العالم الخارجي، وحضارة ثقافية ضد ثقافة المدينة . وجيكور قد لاتكون جيكور الحقيقية ، بل جيكور الرمز والأسطورة التي لها تشكلها الخاص ، وايديولوجيتها المحتملة. فالعودة للماضي عودة للحلم لا للواقع. فجيكور ، هذا الاسم تضخم ليصبح أكبر من المدينة ، وأكبر من الوطن ،إذ أقام له السياب ضربا من اليوتوبيا ، وذلك بالعودة إلى الريف / القرية ]...[ في محاولة جعل جيكور رمز اليوتوبيا مضادة للمدينة التي تصورها رؤيا يوحنا .
    وفي مقارنته بين جيكور والمدينة ، تتماهى ذات السياب مع القرية بمكوناتها فللقرية أشجارها ، وهي مليئة بالخصب والحياة . وترسم ذات السياب تعاقب الفصول في جيكور دليلا على الحياة والتجدد ، وكثيرا ما نجد ذات الشاعر في موقف مضاد لمكوّن بعينه أو لعنصر من العناصر كالأشجار نفسها ، فنجده في موضع الضدية حيال أشجار المدينة الخالية من الخضرة الزائفة الألوان لأنها خضرة بلاستيكية مصطنعة رآها السياب منتشرة في دوائر المدينة ومستشفياتها وقد سمى قصيدته ( جيكور وأشجار المدينة ) لكون الفكرة الأساسية فيها رصد المفارقة الطريفة التي التقطها ذهنه فالمدينة :
    أشجارها دائمةُ الخضره
    كأنَّها أعمدةٌ من رخامْ

      الوقت/التاريخ الآن هو 10/5/2024, 8:43 am