أمكنة

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
أمكنة

مجلة ثقافية تُعنى بأدبيات المكان


    كبرياء الجبال وعبقرية النعناع

    أمكنة
    أمكنة
    Admin


    عدد المساهمات : 285
    تاريخ التسجيل : 16/12/2010

    كبرياء الجبال وعبقرية النعناع Empty كبرياء الجبال وعبقرية النعناع

    مُساهمة من طرف أمكنة 29/9/2011, 11:46 pm

    كبرياء الجبال وعبقرية النعناع

    كبرياء الجبال وعبقرية النعناع 345606


    د.راشد عيسى -

    لكلّ مدينة أخلاق يعرفها الغرباء قبل أهلها، وتاريخ يطلي جدران بيوتها العتيقة بالكبرياء، ولها أنفاس مكنونة في معاطف الغيوم وصدور الطيور وأنساغ الأشجار.
    ثمة مدينة صبية عزباء نزِقة متزاهية بشبابها، وأخرى زوجة طيبة مخلصة مطيعة محفوفة بالرضا والصبر. غير أن مدينة السلط جمعت بين الفضيلتين، فهي أمّ شابة على الدوام يخجل الشيب أن يصبغ جدائل شعرها بالبياض، فهمَّتُها بِعلُوّ جبالها وأعلى، فهي ولود ودود ما أكثر أولادها الميامين الذين حملوا الأردن على أكتافهم عندما كان طفلا، وعندما كبر ازدادوا حبا وولاء لسمائه، وانتماء لعزته، وانغماسا بترابه!
    قبل قرابة خمسين سنة عندما كان "باص" القدس- السلط يصعد بنا من الشونة الجنوبية باتجاه السلط، دار بيني وبين أبي هذا الحوار:
    أنا: أخشى أن "يتدهور" بنا الباص، فالطريق ضيقة خطرة.
    أبي: إذا تدهور الباص سيقع في هذا الوادي الشّهم، صاحب النخوة، لن نموت يا ولد.. النبي شعيب سيدعو لنا بالنجاة.
    لم أفهم جيّدا ما قال أبي ثم سألته:
    - أخشى أن يتعطل بنا الباص، فهو قديم والطريق عالية تتلوّى.
    قال: عندما يصل السلط سيشعر أنه لم يتعب وسيضحك عليك.
    سألته: لماذا الجبال هنا كلها خضراء؟
    سحب آخر نفَس من سيجارة "سبورت" وقال: هذه الجبال غيوم خضراء تحجرت، تركت السماء لتعيش هنا.
    في تلك اللحظة أدركت أنني لو سألت سؤالا آخر لرماني من الشبّاك.
    سهوت قليلا في ما يشبه الإغفاءة، فإذا أبي يوقظني، والباص يتوقف يمينا بجانب شجرة توت ضخمة من عمر جدّة جدتي.
    انشغل السائق ومعاونه بـ"ماتور" الباص، نزل المعاون إلى جدول الماء المنساب بين الأشجار والأعشاب الطويلة وملأ "الجالون" بالماء وأسقى "الروديتر" العطشان. أما أبي فصار يهز أغصان "التوتة" فتسّاقط علينا توتا شهيا، اندلق الركاب جميعا من الباص، منهم من يمدّ عنقه في ماء الجدول ويشرب، ومنهم من يرشق وجهه بالماء. والأغلب "دشعوا" يلتهمون التوت. كل حبّة توت "قدّ حبة التمر الكبيرة". رجل في مثل سنّ أبي عاد من جدول الماء وهو يحضن ضمّة على صدره من النعناع والبقدونس والكزبرة والخسّ وصار يوزعها على الركاب ويقول: "المُزارع لقّطَها وطلب مني أن أوزعها عليكم"، وفي تلك اللحظة طلَّ المزارع من تحت شجرة التوت وهو يتحدث بصوت مسموع واثق من نبراته: "جاه الله عليكو... افلحوا يا الربع.. السلط بيتكو".
    أعترف أنني ما أزال شغوفا بإيقاع كلمات ذلك الفلاح الأصيل كزيت الزيتون وكرائحة الصباح في شوارع السلط القديمة. منذ ذلك الفلاّح أيقنت أن وديان السلط قلوب طيبة وجبالها همم تهزم نوايا الريح. وأن السلط من المدن القليلة التي تشبه أخلاقها أخلاق الطبيعة فيها، لذا بقيت السلط معتزة متباهية ببلابلها وهوائها، ومرحّبة بأسراب الطيور المهاجرة بوجدان إنساني رحيب ونبض عربي صدوق في قلوب من يقفون على جبالها الغريبة يلوّحون بالمحبة والآمال العظيمة لفلسطين الحزينة، وكل واحد منهم يردّد:
    والله يا ربعـي / مـاخانني حدْسي
    وجهُ الفتى سلطي / والقلبُ نابلــسي
    ودَمُ الفتـى كركي / والروحُ في القدسِ.
    عجيبة مدينة السلط، كأنها أمّ معمورة بالأبوة أو أب أريحيّ فائض بالأمومة. ها هي أيادي جبالها تمتد إلى ما يجاورها عبر أنفاس شجر الزيتون والتين والسرو والصنوبر والبلوط والبطم، بحيث تحتضن هذه الأشجار مئات البيوت والمزارع بثقة وطمأنينة ووداعة ورومانسية فريدة تناغي الشمس الأردنية في عزّ الضحى والحب والفخار .

    الرأي

      الوقت/التاريخ الآن هو 10/5/2024, 3:36 pm