أمكنة

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
أمكنة

مجلة ثقافية تُعنى بأدبيات المكان


    الأستاذ الدكتور سلطان المعاني في حوار خاص بمجلة أمكنة

    أمكنة
    أمكنة
    Admin


    عدد المساهمات : 285
    تاريخ التسجيل : 16/12/2010

    الأستاذ الدكتور سلطان المعاني في حوار خاص بمجلة أمكنة Empty الأستاذ الدكتور سلطان المعاني في حوار خاص بمجلة أمكنة

    مُساهمة من طرف أمكنة 28/9/2011, 12:00 pm





    الأستاذ الدكتور سلطان المعاني في حوار خاص لمجلة أمكنة


    مبتدأ الحديث عن المكان عندي (عمون)

    المبدع يرى المكان على مشتهاه هو.

    كرست النقوش العربية,تاريخاً طويلاً لحركة

    دائبة في منطقتنا.[img]الأستاذ الدكتور سلطان المعاني في حوار خاص بمجلة أمكنة Clip_i17[/img

    [/font][/color] توثيق العلاقة بالمكان علاقة ثقافية

    جاءت فكرتكم (أمكنة) التي تنهضون بها منساقة

    إلى حسكم العميق باتجاه واجب التنظير للمكان





    أمكنة: جلال برجس



    في حوار لمجلة أمكنة، يري الأستاذ الدكتور سلطان المعاني؛ أستاذ الحضارة والتاريخ . وصاحب صاحب السيرة العلمية والأدبية المتميزة، أن الاقتراب من المكان سعي إلى الاقتراب من الذات. وأن ثمة علاقة حميمية تربط الإنسان بالمكان بكل تجلياته، عبر موصلٍ يكاد يكون هو الحبل السرّي الذي يؤدي إلى زمن الطفولة المشوبة بوهج ساطع من الذكريات التي أسست لحياة زاخرة بالحياة. وفيما يحص علاقة المبدع بالمكان؛ يرى الأستاذ الدكتور سلطان المعاني أن المبدع يرى المكان على مشتهاه هو؛ هو من يرسمه ويشكّله ويمنحه ألوانه، إنه لوحته الأبدية التي لا ينتهي من تلوينها وزركشتها. يرى المعاني أنه بالإمكان قراءة المكان شعريّاً، إذ يتناثر في الأماكن التي احتضنتنا دفق المشاعر، وأبجديات العشق، ويشيع الهوى في طرقاتها. وتحتشد لحظات الفرح والحنين في كل الأركان والحنايا.




    الأستاذ الدكتور سلطان المعاني، صاحب سيرة أدبية وفكرية وأكاديمية، عزَّ نظيرها. فيها من التنوع ما يدلَّ على تلك الموسوعية التي لا تأتي إلا انطلاقاً من عقل مستنير، أثثته صنوف الإبداع والثقافة والفكر. ارتباطك بالمكان وثيقاً وهذا يتبدى عبر اشتغالك على المكان بإخلاص. إذ يجاز لنا أن نقول بأنك مكانيّ بامتياز. صف لنا كيف ترى المكان.

    هي سعي إلى الاقتراب من الذات، فالأمكنة على اختلاف أحقابها ومواقعها وهج أُنْسِنا، ودثارنا الحنون، نتعلق بهدبها تعلقنا بإشراقه شمس ربيعية، هي بعض من حقيقتنا، كِفل حياتنا، حبل وصلنا الذي لا يتراخى، نمدّه درب مسافاتنا على شغب الطفولة الندي لتبقى الأرض يقين اقتراب الخطى من ملاعب الصبا. والأمكنة تؤصل ذاكرة وعيٍ، ومسرح انسجام المشاهد الحياتية اليومية والمواقف التاريخية التي تُلْزِمُنا الانتساب لها اعتزازًا واستعدادًا للتضحيةِ ولنرتقي بها لحظتها إلى درجة الهوية. المكان إرادة تكريس ذاكرة الوطن، وضبط إيقاع التواصل معه؛ فهي توليفة تُرْتَضَى بحسِ المعايشة وبَداهةِ الوجودِ ذاكرة المكان الحقيقية لا نتسلخ عن الواقع بأية حال ، إلا في الغياب الزمني المحسوس ، والذي يُبقي يَقينَهُ الأثرُ المحفوظ في جوهره المادي الباقي ، أو فيما يعتلج في الصدور من مشافهات وبقايا صور تلونها الذاكرة وفق المشتهى.. وشأو القصائد بأنسام معانيها وحروفها حيث تزهو حصافتها وفصاحتها.

    أي الأمكنة تُحدث في بالكَ التقاطع بين اللحظة الآنية ولحظة الماضي؟
    مبتدأ الحديث عن المكان عندي (عمون) وهي مختتمه. المدينة التي تعلو عرش المدائن، فما كانت أيامها هَونًا فلم تُسْتَكَنْ، وما عَجَّت تلعثمًا في سؤلها وسؤالها، لكنها شرَّعت نواميس نهوض الربوع بعمرانها، وأُنس الشعب بنخبوية ثقافته. وقد ظلّ تاريخها متعلقًا بهدب الحضارة، فالقلعة، الأكروبوليس، وسبيل الحوريات النمفيوم، والمدرج الأديون، وشوارع الكوردو والديكومانوس بأعمدتها الكورنثية وتايكي، لا تمنح عمان التَعَتُّقَ والانعتاق فحسب، ولا نَقْتَرِئُها أطلالًا خوالي، ولكنها المُغْتَرف والمُرْتَشف والهوى وحضورُ النصِّ. ويستوعب وجداني ذاكرة عمون، فمن عين غزال، باكورة قرى الشرق القديم، تذهب منعطفات التاريخ البشري بالحياة نحو مسارات الرقي، وليس أعظم من الوقوف عند المنحنى الهائل والفذ في ارتقاء الفعل البشري في اقتناصه لحظة الإبداع في معرفة الزراعة وتدجين الحيوان. وعلى مسافة الوريد من عمّان تستفيق كلَّ صباح قصة أصحاب الكهف في الرقيم آية عجبًا. وإلى الغرب من عمان يكتمل المنجز بثلاثية الزراعة والأمان مع موقع عراق الأمير حيث يسكب الندى ترياقه فوق الرّبى والطور، ففي مراح الذكريات عرف وادي السير في القرن الخامس قبل الميلاد طوبيا العبد الأمير العموني ونقشت أسمه على عتباتها ليشهد لحن الفصول الجميل، يحمل الخير والنعمة في اشتقاق الاسم والفعل.






    نعلم أن الجغرافيا والتاريخ عناصر مهمة في المُكوِّن العام للمكان.كيف ترى قراءة المكان دون تلك العناصر؟
    المبدع يرى المكان على مشتهاه هو؛ هو من يرسمه ويشكله ويمنحه ألوانه، إنه لوحته الأبدية التي لا ينتهي من تلوينها وزركشتها. ولكنها وبذات الوعي مكون حضاري وتاريخي؛ فقد رأيت في المكان الجنوبي ما يأخذك إلى الجفر ووادي رم وأيلة ووادي الحسا وأرنون والكرك والبتراء سيف صحراء، وحارسة حواضر، تلك الذاكرة التي تستحضرها مرتلة سِفْرَ معمارييها عبر عصورها المتعاقبة، فمن اتساع سمائها ترنو إلى الآفاق والحقب البعيدة، تسعى لفكِّ رموز الخلق والتكوين. إنّها البتراء، ألقُ المسافات، وفرح الجنان حيث هطول راح الكروم على معابد ذي الشرى، مستودع السر والبوح معًا، ويبقى تحدُّرِ الحروف في توليفة نقوش التركمانية وكمكام وأنعم بن أنعم سر التألق النبطي بين القرن الثاني قبل الميلاد والسابع من تموز بداية الألفية الثالثة، ويبقى انتشار طرز بناء عالية الشأن، حفلت بها البتراء شاهدًا على عظمتها وزهوها، وعلى مهارة الحرفيين وتفننهم وإبداعهم . ولك أن ترى وادي رم كيف شئت.. ولكن التاريخ فيه يلح عليك ويطرق باب الفكرة قبستيقظ معها الوجدان فهذا الوادي يلوذ بتراث عظيم، يُجسِّد حركة تاريخية قهرت الظلام، وتعزز تلاقي القوافل المصرية والشامية والحجازية، عبورًا وبوابات فتحٍ وقافلةَ تجارةٍ، تُفتِّقُ مشاعر التواصل العروبي الوجداني والانتماء المكاني، حين يتسع لكل هذا الأفق. وعندما لَفِيَه الأهلُ من العرب لم يقطنوا أرضًا يبابًا، ولا سكنًا مبتورًا، وما داهمتهم غربة الروح، وما تلجلجت ألسنتهم، بل اشتعل فيهم الشوق للأجداد، وراحوا يقلبون النقوش وواجهات وادي القمر ويسألونها عن تذكاراتها وعن الوجوه السمراء وقسماتها وعن دفق المشاعر. وادي رم شلال من ذكريات تتحدر، ومليحةٌ مصونة لم تُتلِف جذورَها، وحرةٌ لم تقايض الزمان ولا أصحابه على ذكرياتها المسكونة تعلقًا بأهداب المكان.


    ألا ترى أنه بالإمكان قراءة المكان شعرياً، بحيث يحمل المكان تلك الصبغة الإنسانية العامة؟يتناثر في الأماكن التي احتضنتنا دفق المشاعر، وأبجديات العشق، ويشيع الهوى في طرقاتها. وتحتشد لحظات الفرح والحنين في كل الأركان والحنايا. فيا له وهو يلملم فينا كبرياءنا ويحفظ علينا نسج وإيقاع الحياة، ويؤجج مكامن لقاءات الأحبة وحكايات العمر على فطرتها. ويعلو بك صدح المكان يماماً تاق إلى رائحة الطين والخلق الأول ويوقظ ذكريات تتجمهر جذلة على المدى المترامي. تأخذك قصة البدايات. ومفردات قواميس الأزمنة التي سلّمت نفسها سنامَ المجدِ. لتهيم عشقاً في بوح القطا والسنونو وعن امتشاق الأرض تلاوين المواسم وبهاءها. فجالت بنبوءاتها وتعاويذها قروناً تتقلب الحضارات واللغات والشعوب كما الحجيج على عتباتها. عندما ينحاز المنجز للتراب وملح الأرض ورائحة خبزها يتكون في الوجدان ميراثا عزيزاً. لا ترهق أهله أمانة العشق. ولا يطويه من وجدانهم الغياب. فيظل المكان خصب الذاكرة وتلاوة سفر يقبض على مكنوز ما بدا منه وما يخبئ بين تشعيباته وكهوفه ومواقعه على أشكالها. وتظل الدروب عاشقة.؛ تروي الحلم. تتقن دورة الحياة لم تسترح من تعب.


    لك جهد واضح في اشتغالك على النقوش من وجهة نظر تتمازج فيها الرؤية التاريخية بالرؤية الأدبية ، حدثنا عن ذلك؟
    لقد كرست النقوش العربية, تاريخاً طويلاً لحركة دائبة في منطقتنا, ووشت بالكثير الكثير من أسرارها لاستكناه مكوناتها الثرة والطافحة بمجد العصور الممتدة إلى ما قبل القرن الرابع قبل الميلاد, مما يحتاج إلى بحث مستفيض، ووقوفٍ طويل لإحصاء ومحاكمة هذا الكم الهائل من النقوش والنصوص والأثر، وبما تختزله حجارتها من عوالم ظلت صفحة مطوية آلاف السنين لأجيالها الحاضرة, ولتلك التي لم تأت بعد, بتناغم مذهل لاتجاهاتها، مشكّلة في ما بعد أعظم أسطورة بنتها تلك الأكف السمراء والأجساد النحيلة، والكثير من الجوع والعطش. ولم تكن النقوش العربية الشمالية على قصر نصوصها إلا تكريسا لحضور المكان، تحفر على ظاهر الصخر والحجر مكنون النفس، وتقبض فيه على المنطوق من أفعال ومن تأملات، ولستَ تملك وأنت تقلب حجارة النقوش في رجومها غير استرجاع ما كتبوا، وتستنطق النقش رؤيا تستحضر الروح التي سكنت الآباء والأجداد فتستشعر قداسة المكان وسطوته.في رحلة الكشف عن الرجوم ونقوشها في البادية تتيقن أن صوغ القريض ربا إثر خطى الأجداد في أرض الحماد والحرات، فغدت رباها مثار الإلهام، ونقطة البدء نحو رحابة الكون ... ورُقم أساطير مجد أبنائهم وانتصاراتهم وقد جعلوها وهي مفازتهم ضيق الصدر والمسافة على الباغي. إن قراءة النقوش وتحليلها تعلق بأهداب الماضي، ففي كل حرف من حروف نقوش العرب المسندية في بوادينا الأردنية تَلُحْ ملامح الوجوه التي رقمت حروف هذه النقوش، تستحضرهم، وتتلاقى صور الشخوص المنحازة بكل تقاسيمها إلى سمرة اللون ونقاء السريرة، بأوتار ربابة عَذُبَ لحنها، فكانت حبلهم السري بين القلب والأرض. النقوش في البوادي الأردنية عقد أبدي يمنح الحياة لأبنائه، ويستحضرهم جمالَ واقعٍ، وحلمَ زمنٍ لم يَتَرَدَّ، ونحن إذ نستنطق نقوش البادية نستحضر الماضي الجميل بكل الحنين واقتراب الزمان والمكان، ونسكن فضاءه أنساً، ونقرأ حروف نقوشه لغة عربية نعي فيها مراد الأسلاف دون تأويل أو لجلجة. لا تنطوي رحلة البحث عن النقوش على ما اعتدناه من إعادة تشكيل مفردات هذه البيئة، عن طريق البحث عن نقوش تعلو حجارة تتم نقحرتها وترجمة مادتها فحسب، بيد أنها رحلة الغوص إلى عالم يبدو بكرا يحتاج لمن يستكشف كنهه، ويتفحص البيئة من حوله، فهي موضوعه وعالمه، كما هي عالم كاتبي نقوشها، يستحضرهم المستكشف نداماه، وعالم درسه وسرديته، فيتعاطاها في شحنات شعورية تعكس تراضي الذات مع عالم النقش من جهة، ورافضة قصور التواصل من جهات، إذ لم يسجل عالم من علماء الكتابات السامية أية محاولة من محاولات الاستكشاف في منطقة الأودية الواقعة شرقي منطقة الجفر حتى حدود الوطن مع شمال غرب الحجاز مثلا، ولم تنل هذه الأودية، الواقعة إلى الجنوب من منطقة باير الغنية بالنقوش والدراسات، من جهود المسح الأثري أو النقشي ما ناله وادي باير من الشمال، ووادي السرحان من الشرق، ووادي رم في الجنوب. فكانت رحلة البحث عن النقوش هي استكشاف كنه البادية، والإبحار في زمانها حد التلاقي مع قاطنيها أجسادا وأرواحا، وهي رحلة البحث عن اكتناز اللحمة في استحضار الذات في تأصيل الجذور والوطن في عشرات الرجوم التي تحتضن رفاة أبنائه على تعاقب الأحقاب وتعدد الظروف. فكان هاجس الرصد والبحث عن عالم هذه النقوش وقت تناهى لأسماعنا وجود كتابات على الحجارة المنبثة فوق رجوم تلك المنطقة. ولقد حمل لنا هذا الخبر مدلولات عميقة عن المكان، وضرورة تبصر الحياة فيه حاضرا، وطواعية المضي في استحضار التاريخ بصوره الوجدانية والمادية، مما دفعنا إلى القيام بجولات استطلاعية في المنطقة، فكانت حافزاً لجولات ميدانية مسحية منظمة أخرى، بعد أن تزودنا بالتصريح اللازم للعمل من دائرة الآثار العامة الأردنية.ولقد رافقت متعة البحث ولذة الاكتشاف صعوبات جمة، تمثلت في بعد المسافة، ووعورة المسلك، وقفار المكان، وخلوه من السكان المتنقلين بشكل شبه تام، علاوة على المساحة الشاسعة التي يتحتم علينا التنقل بين رجومها، ورغم ذلك فقد حرصنا في الميدان على توثيق النقوش أولاً بأول، حجرا حجراً، ورجماً رجماً، وقد امتازت بعض الأودية بكثرة رجومها، وبعد المسافة فيما بينها.فيها ومنها إن شئت فالطريق إليها يختزن الرؤى بثراها الندي وعطر الصباحات بين وديانها التي تحرك اللواعج، وتسأل الأوصاب أية طفولة تلك التي اجتازت عذاباتها، وخففت صولة الدهر فيها، فلم تأخذه مدمعاً وحسرةً، ولم يجفُهُ الندى شيما وذكرى بل نادت عاشقها من أوجها، هنا أرض الحماد غيرةٌ وغضبٌ وبعثُ هوىً وروض رمال.


    دعنا نجيء إلى جهة أخرى فيما يتعلق بالمكان. كيف ترى علاقة الإنسان الأردني بالمكان، وعندما أقول المكان فهذا ينسحب على المواقع التاريخية كما ينسحب على مكان المولد بالنسبة لذلك الإنسان؟لقد تَسَلْسَلَ استيطان الإنسان في الأردن بدءا من العصور الحجرية حتى يومنا هذا فلم ينقطع الفعل البشري فيها طوال تلك الحقب والقرون.ها هم الأردنيون يسترقون السمع في عين غزال إلى ضراعات السقيا.. ونشيد التبتل.. يوقظ الفجر مناجل الصوان.. يسترجع ذكريات البيوت وهي تأخذ شكلها الحائر بين الاستدارة والتزوية.. ها هم يلتقون فيها غير نادمين.. تتسع الغرف كلما اتسع الحلم.. ورفرفت الألفة وقد غادرها نزف الذكرى.. ولهات الصدفة في جمع القوت وتتبع الطرائد. لقد استفاقت القرية في حضورها المجلي على وهج الدهشة ونداء الحياة الذي يليق بالمكان.. الذي لملم أشلاء الشرق القديم.. ونهض من ركامه.. ليعلن الفرح.. ليلقاه صورة للحلم.. يسطرة بالمعاول والأزاميل والمطارق وفيض من عرق وكد.. يحصد جنى الرحلة الموغلة في سراديب العصور التي أضاعت تواريخها ودروبها.. فيعلو في عين غزال صوت المخاض.. وتوق الولادة.. وحكايا الأمل.. وخطو الدروب صوب صفصاف الفرح.. وسلال الجنى.. وتقاويم الحياة. وقد مضى الفعل البشري في الأردن في تلك العصور تراكميا في حصيلته المعرفية إلى أن بدأت بوادر القرى الزراعية في العصر الحجري الحديث. وقد جاء انتشارها في مناطق امتدت على رقعة الجغرافية الأردنية في وقت متزامن مع قرى بلاد الشام وبلاد ما بين النهرين. وقد مثلت مواقع تل أبو حامد وتليلات الغسول في غور الاردن، وسحاب والمقص وتل وادي فينان في جنوب الاردن، صدى المنجز الحضاري في أركان الوطن.. همة بهمة ذاك الفضاء الرحب في عين غزال.فأي شرف عظيم ذاك الذي يسكن الروح ويحل بالمنجز.. ففي المكان وتداعي تذكاراته نقاء الروح وسلام يستوطن الأفق والمدى.. يؤهل الأثر لآسر القول وعذب المرتشف الذي لا تني الروح عن بث جماله .. ولتبقى على تواصل مع صدقه.. فرحة وجود.. وصدق تمنٍ.. وشرف انتماء.ولعلي من سؤالك أتسلل إلى ذاتي وكيف أرى المكان، ولعلي لا اختلف عن الأردني في نظرته له إلا في مدى الكلمة التي تلوننا بجماليتها، فقد كتبت في هذا مرة بعض طفولتي:

    يتهادى البحر في إهاب.. يحوك وشاح الضفاف.. يسحب الأفق امتداد زرقة.. يبيح للعاشقين قرض القصيد..

    يمنح الروح نوارس الشطآن.. يسوق خطاه إلى "الأرض الجُرُز".. يبعث فيها السنبلة المَثَل..

    تُنْبِتُ "سبع سنابل".. "في كل سنبلة مئة حبة".. إنها أيلة.. تتوسد القمر كل مساء.. تهب الحكاية انسياق المدى.. من شاطئ الحلم نحو رحاب الغمام..

    ومن زورق العتق صوب اندياح النشيد.. ومن شجو موسيقاها إلى خِدر القمر...

    أيلة.. قنديل الروح في درب اليقين.. ياقوتة الفرح بين مخضل الضفائر.. تحرس موج البحر النافر

    أسراب قطا.. والسابح صوب يناع الهوى..

    والرَّغَاب. أيلة.. تسابيح الطفل وبقايا تذكاراته.. ينتشي بتلك الذكرى الحلم.. حيث يمسك الوالد.. بكل جلاله وهيبته وطوله الفارع يد الصبي.. يمضي معه.. يتنسم ندى مساءات أيلة.. يمضي صوب البحر.. يصطحب الطفل وقمر السماء.. فيا لمجد القامة العالية.. وطيب النسائم.. ودفق الحنان من القلب الكبير.. يا طهر الروح وطيب الفؤاد.. لا يشبه ما قلته ذلك المساء قول أحد.. لبيك يا بيدر الخير.. ويا سقيا الديار..

    في مساء الحكاية.. كانت حواري البحر تحرس الشاطئ.. وقد أرخى البحر جدائله.. وزف القمر تباشير الغد.. قال الأب: هل ستتذكرني بعدما تصعد الروح إلى باريها يا ولدي؟.. هل ستقص لأولادك، القادمين من بطن الغيب،.. عني.. وعمّا أقص عليك..؟ إيه.. يا أبي.. وكيف أنسى؟!

    هي العقبة.. بيت الحكاية.. سيدة المسافات من ميلادك إلى أن اختارك ذو الجلال والرحمة إلى جواره.. فها هي العقبة تسفر عن نفسها، وعن سحر مساءاتها التي تحيي تلك الذكرى سرمدا.. وتجمل الدنيا في عيون الطفل الذي كبر.. فما يفتأ يقرأ الفاتحة على طهر الأرض من ثغرها الباسم إلى ياقوصة اليرموك.. وقد استحالت روضة جنان بإذن ربها، حيث يرقد الأب.. صاحب الحكاية والذكرى ونسيم الخطرات..


    هل ترى أن على جهات معينة جهداً منتظراً في الإشغال على توثيق علاقة المواطن الأردني بالمكان؟توثيق العلاقة بالمكان علاقة ثقافية. فإذا كانت جميع دول الجوار، وغيرها في العالم، قد أتمت موسوعات الأماكن فيها أو كادت، فما زال تدشين انطلاقة الموسوعة الأردنية حلم يراودنا، ولا يتأتى تبني ذلك إلا عن طريق مؤسسات وطنية كبرى. فالأماكن ذاكرة وطن وأمة، وضمير حي نابض فيها، وهي حبلها السري الذي يتصل بمشيمة الشعوب والأمم والأجيال التي تعاقبت على المكان منذ ارتبط الإنسان بالأرض وحطت به عصا الترحال، فاتخذه حاضنا لثقافته وحضارته ومعنونا لهويته ومحققا لذاته. إن تضافر الجهود في أمانة العاصمة، إضافة إلى الطاقات المؤهلة في مؤسساتنا الوطنية الأردنية، مسألة مهمة في سبيل تحقيق هذا المنجز الحضاري. وإن من أبجديات الطرح التنويه للأهمية القصوى لهذا المشروع الوطني الضخم، الذي يحتاج إلى جهود الجميع، من مختصين وأكاديميين، وجهات رسمية، وعلى مدى سنوات قادمة خدمة لتاريخ الأردن وتراثه، إذ أن الجهود المبذولة في هذا المجال فردية ومبعثرة تخدم جوانب محددة من فكرة الموسوعة، لذا لا بد من جهد وطني متكامل، يضع مصلحة الوطن عاليا، وذلك في تناول الجهد الموسوعي بشكله الشمولي والعلمي الذي يليق بهذه الفكرة الجليلة. إنّ من المؤسف أن تفتقر المراجع الأردنية لموسوعة شاملة للمواقع الأثرية والتراثية وبحث دلالاتها الاشتقاقية واللغوية، وارتباطها بوقائع تاريخية، وظواهر اجتماعية، ولتناول بيئتها من الناحيتين البيئية أو الطبيعية، إذ أن الدراسات السابقة قد اقتصرت على تناول مواقع أو جوانب محددة تشمل أحياناً موقعاً أثرياً اهتم العلماء بدراسة اسمه وآثاره.إن تحديد المزايا والقيم الحضارية المختلفة التي تتمتع بها الأمكنة والمواقع الأثرية والتراثية الأردنية، والتنويه إلى الأخطار التي تهدد وجودها وسلامتها نتيجة الاستخدام الجائر أو التجاهل غير المبرر، ووضع السياسات التي يمكن إتباعها للانتقال بعملية المحافظة على هذه المواقع من المرحلة النظرية إلى المرحلة العملية واجب وطني، يقتضي تعظيم فكرة الشروع في عمل الموسوعة الشاملة للمواقع الأردنية، وضمن مجهود وطني مشترك، تضطلع به المؤسسات الوطنية ذات العلاقة.

    سؤالنا الأخير، كيف ترى ولادة مجلة أمكنة التي تعنى بشؤون المكان؟[color=#333333]

      الوقت/التاريخ الآن هو 27/4/2024, 12:01 pm