أمكنة

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
أمكنة

مجلة ثقافية تُعنى بأدبيات المكان


2 مشترك

    أمية أمي مدرسة علمتني الحياة

    جلال برجس
    جلال برجس


    عدد المساهمات : 27
    تاريخ التسجيل : 17/12/2010
    العمر : 53
    الموقع : www.jbarjes.malware-site.www

    أمية أمي مدرسة علمتني الحياة Empty أمية أمي مدرسة علمتني الحياة

    مُساهمة من طرف جلال برجس 28/9/2011, 12:38 am

    أمية أمي مدرسة علمتني الحياة

    * جلال برجس

    في أول صباح مدرسي لأول يوم في روزنامة الرحيل باتجاه الاحلام ، شيعتني بدمعتين وتلويحة من يدها النظيفة وابتسامة طاهرة ، وانا أحمل حقيبتي التي احتوت على اقلام ودفاتر وقبس من دفئها . أمي التي سأظل أبدا مديناً لها بالحنين ، وصوتها في ذلك اليوم مازال يخفق في مسامعي ( لا توَنّى وانتا مروّح ) وبالفعل لم أتأخر ، اذ كنت قد حشرت بضعة الواح من الطبشور في جيبي وخرجت وأنا ألتفت الى الوراء أراقب مدرستي التي أمضيت في ذلك اليوم بها ساعات طوال مرت كأنها لمح البرق. كان ذلك في العام 1975 وكان الصف الأول الابتدائي الشرارة الاولى في بهو الحلم .مدرستي في تلك السنين كانت عبارة عن غرفتين قدميتين تعودان لاحد سكان القرية ، لكن رائحة اليوم الأول ماتزال تطوف في شرفة روحي عصية على النسيان .على جدار بيتنا القديم لامس لوح الطبشور خد الاسمنت وأنا أرتكب أولى خربشاتي كما لو أن عاشقا قبل ثغر حبيبته بشهوة اسطورية . كتبت وكتبت وكتبت الى أن أقعيت على الارض اضحك بملء دمي لتطال ضحكتي سماء قريتي( حنينا )الرابضة على كتف الهواء الذي مازال يعلن عن تاريخ الحرف والكتابة في مادبا . كانت امي في تلك اللحظات تراقبني بتلذذ وهي تُعلي ابتسامتها فوق ذرى نشيج الفرح. تخيلوا كيف يحاول الواحد منا أن يعلن عن ابتسامة خلفها دمعة كبيرة . كانت تغالب نشيجها وهي تهمهم : لقد رميت بسرتك في باحة المدرسة ( ياوليدي )

    أمي والمدرسة حياتان لاتنضبان من سماء قلبي. أمي لم تعرف الكتابة وشهوة الحرف وطعم القراءة واستكشاف العالم ذات يوم. هي امرأة بدوية عذبتها الحياة بكل قسوة ابتداء من سني المحل الى سني الهجير الى مرارة الثلجة الكبيرة ، الى سني الجوع وخبز الشعير وشوك المرار الذي كان يستقر في يديها في أوقات الحصاد ، الى برد اليتم ، وقسوة زوجة الاب ، ثم قسوة الحماة ، والسلفات. لوعتها الدنيا منذ اوجاع الغدة الدرقية الى عبودية الانسولين الى ألم المفاصل ، الى رعونة التحسس ، الى آلام المرارة ، الى المياه الزرقاء في عينيها ، واخيراً السرطان .

    أمي لم تعرف القراءة والكتابة ، لكنها اعطتني مفاتيح العالم عبر رؤيتها البدوية للدنيا التي كانت كلما لطمتها على خد اعطتها الخد الاخر جاهزاً للطمة اخرى. كانت تجلس قربي في سني دراستي الاولى تراقبني كما الاطفال ووجهها ينساب عليه ضوء (اللامظة) ليجىء الى قلبي حانياً رقيقاً يختزل بعضاً من تفاصيل الملائكة. كانت هي مدرستي الاولى التي تعلمت فيها كيف أحب الحياة رغم قسوتها وجحودها على من هم في مثل حجم أحلامي. كانت مدرستي الأولى التي تعلمت فيها المشي باتجاه الشمس لا باتجاه الكهوف. على يديها ابتدأت خطواتي واحدة إثر أخرى كبذرة شربت الماء جرعة وراء جرعة على مهل وروية . أمي لم تعرف القراءة والكتابة ولم تذهب الى مدرسة ، لكنها كانت تسهر معي ان سهرت وتقرأ معي ان قرأت وتكتب معي ان كتبت. وكلما أخذتني الحياة بعيدا عنها تنادي : أقرأوا لي شيئاً من شعر جلال ، وأنا في البعيد أتوق لحضنها الدافيء وبرد المدن البعيدة والصحارى يكلل خلاياي.

    أمي لم تعرف القراءة والكتابة لكنها كانت تقاسم الجارات خبز قلبها وحليب روحها وتعيرهن كتاب بداوتها وتُلقي عليهن حنينها للحياة. كانت تقول لي بصوتها الذي سيبقى ماحييت رتمي الابديSad حي الدنيا عايش ياوليدي). تهديني زهرة قناعتها وتزرع في تربة دمي نزقاً انسانياً يجعل الحياة بهية ولو كان القوت خبزا وبصلا.علمتني أن الوطن ليس مجرد رقعة جغرافية جامدة ، بل عقداً ثميناً سيبقى يوشح صدر كرامتي بضيائه اللامتناهي. ولطالما قرأت عن حرب ال48 وحرب ال67 وال73 ومعركة الكرامة ، لكن حديثها لي عن تلك الوقائع التي لم اشهدها علمني ان الحقائق لاتضيع ، وهي تسرد لي الحكايات عن بسالة الجنود الاردنيين وتسميهم لي بالاسم كما لو انها قاتلت معهم في تلك الايام .

    أمي لم تعرف القراءة ولا الكتابة لكن أخبار الثامنة على شاشة التلفزيون الاردني لحظة مقدسة عندها الى أن يحين وقت النشرة الجوية اذ تهمهم اثر انتهائها ( الله يجيب الخير ).

    أمي لم تعرف القراءة والكتابة لكنها يوم نتائج التوجيهي أطلقت زغرودتها التي جاءت كترويدة نحلة برية وكأنها تود أن تقول أنها تعلن الان طقوس نصرها على هذه الحياة.

    زمن كاسح مابين 1975 ومابين 2009 ، لم يمر مرور الكرام بل مرّ كما تمر سكين مهترئة بجسد فتي ، بحيث اهدتني هذه الحياة معادلتها المختلطة على ذاتها ، لكن تبقى سنوات المدرسة شرفة بهية تتمختر في دمي ، وتبقى أمي - التي صارعت وحش السرطان شهوراً قبل أن تودع هذه الحياة - مدرستي الإنسانية الأولى رغم قراطيس القسوة التي توزعها الحياة كل طالعة شمس . عندما أهالوا عليها التراب رأيت كل شيء حولي يتهاوى لأصير شجرة دب بها اليباس على حين غرة.
    زوليخا موساوي الأخضري
    زوليخا موساوي الأخضري


    عدد المساهمات : 10
    تاريخ التسجيل : 17/08/2011

    أمية أمي مدرسة علمتني الحياة Empty مرآة

    مُساهمة من طرف زوليخا موساوي الأخضري 28/9/2011, 2:00 am

    و كأنني أتلمس موقع خطاي في مرآة. نفس الحنين و نفس الحنان. نفس الوجه الملائكي الذي أثث السنوان الأولى من العمر، نفس الحاجو إلى الدفء الذي لا ينضب رغم مرور كل هذه السنين و أنا أقرأ حنينك الطاغي لقطعة الطباشير الأولى تحاول تشكيل العالم تحت نظرة حانية لآمرأة من خزامى و زعتر ، تعلمت أن جرحنا العربي واحد تناثر شظايا عبر الخريطة من الماء إلى الماء كما قال محمود درويش

    دمعة كنت أظنها عصية ترقرقت من وراء سحب النص هي وحدها الشاهدة على روعته

    لأمي و لأمك الخلود في قلبينا عزيزي و لك مزيدا من التألق

    كل المحبة

    زوليخا
    جلال برجس
    جلال برجس


    عدد المساهمات : 27
    تاريخ التسجيل : 17/12/2010
    العمر : 53
    الموقع : www.jbarjes.malware-site.www

    أمية أمي مدرسة علمتني الحياة Empty رد: أمية أمي مدرسة علمتني الحياة

    مُساهمة من طرف جلال برجس 28/9/2011, 4:54 am

    صديقتي العزيزة زوليخا. هذه المقالة كتبتها بعد وفاة والدتي باسابيع ونشرت في الدستور الاردنية. لا أعرف حينها لم أستطع أن أعبر عما أحس به شعراً ، فكتبت ما كتبت. صديقتي العزيزة. تعقيبك هنا على ماكتب تعقيب اثار في النفس السعادة. نعم يازوليخا حزننا العربي واحد ياصديقي واحد. رحم الله أمهاتنا ولك العمر المديد والسعادة الوافرة/ كوني كما أنت جميلة وراقية /محبتي وتقديريري

      الوقت/التاريخ الآن هو 12/5/2024, 3:30 pm