أمكنة

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
أمكنة

مجلة ثقافية تُعنى بأدبيات المكان


    عمان..مجاز واقعي للمكان. يوسف البحري

    أمكنة
    أمكنة
    Admin


    عدد المساهمات : 285
    تاريخ التسجيل : 16/12/2010

    عمان..مجاز واقعي للمكان. يوسف البحري Empty عمان..مجاز واقعي للمكان. يوسف البحري

    مُساهمة من طرف أمكنة 25/8/2011, 3:33 pm

    عمّان.. مجاز واقعي للمكان
    يوسف البحري *
    عمان..مجاز واقعي للمكان. يوسف البحري 339706

    - عمّان على الساعة الثامنة ليلاً من فوق، تمدّ يديها لتتحلى بكساء الليل المزدان بعروق ضوئية مبهجة. على الساعة التاسعة ليلاً كنتُ خارج المطار شخصاً آخر غيري أنا. فوجئ محمود، سائق السيارة المكلف بإيصالي إلى الفندق، بالمخرج المسرحي التونسي الكبير جعفر القاسمي يَظهر بدلاً عني من دون أن يسافر جعفر إلى عمّان أصلاً. توجد صلة بين محمود السائق وجعفر القاسمي انعقدت في مهرجان ليالي المسرح الحر بعمّان في نيسان 2011. بدا لمحمود أنّ التشابه كبير بيني وبين القاسمي، لكن سرّني كثيرا أنّني لم أكن أنا عندما وصلت. كان لا بدّ أن أكون شخصا آخر في عمّان. فاكتشاف مدينة ذات وقع شديد على الروح، يقتضي أن أعيد صياغة ذاتي باستعدادٍ طارئ غير الذي كنت أهيئه للأمكنة الأخرى. تقع عمّان في موقع استراتيجي غرب الوجدان، شرق وشائج الباطن، شمال القلب، جنوب البصيرة. تنسرب هذه المدينة إلى دورتك الدموية وتتفاعل مع عناصر هيكلك العظمي وتنشبك في نسيج شرايينك وتنزل في قيعان انفعالاتك. عمّان.. مدينة بسبعة جبال وثمانية دواوير.. من جبل القصور إلى جبل عمّان إلى جبل التاج إلى جبل نزال إلى جبل الحسين إلى جبل اللويبدة. تعشق هذه المدينةُ زراعةَ الأبنية في أعالي جبالها. تنبت العمارات والبيوت بحنانٍ يخطف الألباب، فتبدو الجبالُ ما يمتد من الأبنية، وتبدو الأبنيةُ ما يمتد من الجبال. عندما تجوب عمّان تدرك أنّها أذكى عاصمة عربية تبنيها فكرةٌ وتنهض لغايةٍ وقصدٍ، حيث الطبيعة والإنسان كلاهما أقام كيانه بالمادّة ذاتها؛ الحجر الجميل الذي يجعل الأرض تتشكل بلونها كأن فناناً نحّاتاً أقام ورشته بالمكان بأكمله، وكأنّ عمّان بُنيت أصلاً جائزةً لجبالها السبع ومُنحت الدواوير فرصةً للمكان حتى يتوقف قليلاً ليملأ نظره بالفكرة التي أصحبت مدينة. سرّني كثيرا أنّني لم أكن أنا نفسي في عمّان. وكان السائق صادقاً. على الساعة العاشرة ليلاً كنت بوسط البلد أتذوّق عمّان في طبق كنافة من محل "حبيبة"، حيث كثافة السكان في المتر المربع الواحد غير قابلة للتحديد. وكنت سعيداً بذلك الازدحام الذي يجعل الجميع في سباق هادئ. الليل في عمّان كنافة أخرى بالحلاوة نفسها. ليلٌ تراه في المطلات الجبلية أو تغوص فيه في الطرق التحتيّة. لقد رأيت جمالَ عمّان في أصدقائي الأردنيين الذين عرفتُهم في تونس: جعفر العقيلي وأسماء مصطفى ومفلح العدوان ورامي غرايبة. لكن سفراء المكان لا يكشفون لك كل شيء. فالسحر يحتاج إلى الحواس مباشرة. ولا بدّ أن تقوم بـ"فرمتة" ذاكرتك حتّى تتّسع لعمّان بنضارة كاملة. عبقُ عمّان ذكيّ وقويّ. مدينة مخلوطة بالهيل. يزدرد فيها الأنفُ الروائحَ بازدياد. تبدأ عيناك بالاستمتاع ببائع القهوة وهو يخلط الهيل بالبنّ بفرشاة تحوّل الأخلاط إلى حركة سريعة كأنّها تستنهض الروائح. الحياة في عمّان ليلاً قويّة كأنّ عبق الهيل في كل شيء. الصداقة قويّة مثل عبق الهيل أيضاً في عمّان. وتلك ميزة تكتشفها عندما تصل على الساعة الثامنة ليلاً، لترى عمّان بكساء الليل المخروط بعروق ضوئية قويّة. لو كانت عمّان امرأة لكنت أحببتها فوراً. لكنّي سأجد عندئذ صعوبة في النظر في عينيها، وفي النطق بكلمات الحبّ. كلّ النظرات وكل الكلمات عادية مكرورة مستهلكة أمام عمّان. فهي مدينة تحثّك على اختراع لغات طارئة وعلى اجتراح نظرات مفاجئة. على الساعة الحادية عشرة كنت بمقهى "جفرا"، بين نخبة من الأدباء العرب من مصر وسوريا والأردن وسلطنة عُمان والسودان واليمن وفلسطين. كنّا جميعاً رسالةً ترسلها عمّان إلى روح محمود درويش التي تسيطر بغيابها القويّ على المقهى الذي يتوزّع بين عالم درويش والأدب في المعلّقات الفوتوغرافية، وبين عالم الحياة التراثية في الأثاث والإكسسوارات. بعد ذلك اكتشفت أن عمّان مصابة بالثقافة في مقاهيها ومطاعمها؛ تَدخل فكأنّك في صفحة من صفحات كتاب أو في موسيقى أغنية أو قصيدة. تدهشك عمّان بمحلاّتها، لأنّها فكرةٌ حلّت بالأبنية، والأبنيةُ في عمّان نبيلة نقية لا تشوبها لافتات الإشهار الإلكترونية الفجّة ولا تُفسدها ثرثرة الإشهار الغبيّ الذي يلطّخ واجهات الأبنية في عواصم عربية كثيرة. تنبّهك عمّان من دون غرور إلى نخبتها وهياكل تسييرها. تلك النخب وتلك الهياكل لا تسمح بالنشاز في المعمار وفي المحلاّت. كلّ شيء موزون محسوب حتّى تتراءى لك عمّان لوحةً مفروشة على الأرض. وتقرأ بوضوح كبير الإمضاءَ على اللوحة. إمضاء يؤكّد عضوية اللوحة وحياتها وتراسل عناصرها. إذن، لم أصل على الساعة الثامنة ليلاً إلى مدينة، بل وصلت على الساعة الثامنة إلى لوحة. وهذا ضروري لذاكرتي حتّى تربط عمّان بمجازها التشكيليّ. عمّان مَجازٌ عمرُه 6 آلاف سنة.. عمّان.. عمون.. فيلادلفيا موطن الرفائيين والزمزميين والعمونيين والآشوريين والفرس واليونان والبطالمة والسلوقيين والأنباط والرومان والبيزنطيين والأيوبيين المماليك والعثمانيين والشراكسة.. مدينة المساجد والكنائس والزيات وابن عيسى الأزدي المعاني والجرشي والإيلي. مدينة المسرح الروماني ومركز الحسين الثقافي وبيت تايكي ودارة الفنون والمركز الثقافي الملكي والمسرح الدائري. مَن يدخل عمّان فهو آمن. ومن يخرج ليلاً طلباً للأسواق في جبل الحسين وسقف السيل وعمّان الغربية، فهو آمن.. مدينة التجارة والثقافة والفنون. عاصمة القصة العربية. الساعة الواحدة ليلاً بالغرفة رقم 106 في فندق يحمل أحد أسماء المدينة قديماً. أول نوم لي بعمّان. هل يختلف النوم من مدينة إلى أخرى؟ هل التنفّس هو نفسه؟ هل الشخير هو ذاته؟ هل الاستسلام للموت الأصغر واحد؟ بين مدينة وأخرى النومُ شتى. في النوم وأنا بالغرفة بالفندق بشارع يحمل مصادفةً اسم "تونس" بين الدوارَين الثالث والرابع بعمّان، توجد مدينة عمّان حيث اللامكان.. تنزل الطائرة من فوق، ملأى بابتسامات المضيفات.. تنزل الطائرة في طبق لذيذ من المنسف والجميد "الممروس".. تتوقف المحركات.. وجه جعفر العقيلي الباسم دوماً وقلبه الرائع المتحدّي يقول لك: "مرحبا بكم، نرجو أنّكم استمتعتم برحلة مريحة على متن (الملكية الأردنية)". طعم المنسف في الحلق مثل عمّان على الساعة الثامنة ليلاً، والنوم في غرفة بفندق بشارع يحمل مصادفة اسم تونس بين الدوار الثالث والرابع بعمّان. الليل في عمّان قطعة من الكنافة الحلوة.. قصة قصيرة مزدحمة بالأحلام.. مدينة مجازية بكلّ ما في المجاز من واقع، ترتدي عندما وصلت إليها ثوباً أسود مطرّزاً بألوان بهيجة تنتظم عروقاً ضوئية توقظ البصائر. * قاص وروائي وكاتب مسرحي من تونس

      الوقت/التاريخ الآن هو 12/5/2024, 6:36 am