مملكة الرمل والعشاق والليل الحزين

مملكة الرمل والعشاق والليل الحزين

.. بقلم : مخلد بركات

- ماذا هناك أيها الغريب ؟!!
- ويسألونك عن رم قل هي حزن الراحلين عنها.
- وماذا أنت هنا؟!!
- أنا هنا محض سائح بربري الخطى لم يحتمل فائض الجمال المخبوء، يصيخ السمع لبوح خفي لأرواح تسكن جبل أم عشرين ، تنوس في ظلال الحبق والعرعر والتين البري، النبت المجنون والراسم تعويذة خضراء في عتمة شقوق الرمل.
- بوحك يطربني ، أكمل يا غريب.
- هنا أغازل فيك أمواجا صخرية وعلامات النيم، على مرأى من رعاة يسيحون بنوقهم النحيلة، يعزفون على شبابة مغدودقة بالنقوش ترنيمة لاحتضان سواليف الليل وتعاليل العشاق. كيف لي وأنا الواجم، الضالع في الهجرات المنسية أن أرتوي من نشوتي الأولى أيتها المملكة الرملية؟! عبرتي نائحة، دالقة على صدى صهيل بعيد لفارس رمي يرخي جدائل الشمس على أعنته، وينشد الشعر لي كأسا في آخر الليل، في أول العتمة، وأهزج:
- يا هذا الرمي، يا كائن الرمل العتيق، الليل عميق، فاملأ خابيتي بالنشوات.
ويهمس في روحي: اتبعني يا غريب. اتبعني.

وأسافر رويدا، ليزاول ظله المكسور أمامي، ويبتسم عن سمرته البدوية وأطعن العتمة بالنشيد: جمعة (1)، أيها الرمي الجميل، كيف لي وأنا الغشيم بالخرائط النبطية أن أصل إلى نبع عينيك، دلني، منهوك يا صاحبي منهوك.
لا شيء غير عواء ريح، وتشكيلات ميتافيزيقية لبشر شاحبي الوجوه وغريبي الملامح وأشكال لسفن عملاقة، ولفطر حجري وسيم يشي بهم الليل المسفوح. وأغرسها في الرمل، يدي أفعوان لحمي، تبحث عن أسرار خبأها بدوي مثل طائر سيناء الوردي، رشيق الروح، وأنوح كذئب طريد: حنون أنت يا جمعة مثل جلد الربابة، ما هذا البهاء يا سيد العتمة؟!! أتراني سأرتوي من هذه البرية الجموح، دلني على أول الخيط يا أمير الفلوات.
صدى عميق يستفز النوق في أنين مراحها، جرانيت فجري مدهش يلمع عند آخر اليقظة. أقدامي من عطش ملحي، ترتطم بأعشاب القلخ .
- هذا طعام النوق، يا تمثال المدينة الحزين، ابتعد، هذا طعام النوق.
ها!! كأنما صوتك يغالبني فأستيقظ، الفجر حريق بعيد، والبومة غطست في الوهن، أتراني مشتعلاً بك يا رم حد البكاء!! أتراني ممسوساً بنعناعك المائي المموسق عند نبعك الأزلي، والقرابين لما تزل محضرات، جيء بها من أقاصي البؤس والغرانيق العلى. ويأتي عزفك يا جمعة مرة أخرى مثل ناي يهدهد ماعز الجبل بالأنين:
- انظر، هذه أعمدة الحكمة السبعة، إنها من أبجديات الرمل، ألا تفتنك يا هذا؟!
- في الفضاء يا جمعة ثمة عقاب أسود، مثلي طريد، يخبط الفضاء بأجنحته، ألا تراه؟!
- سأصحبك ورفاقك إلى خريطة رم الجيولوجية، لقد نقشها الأنباط فوق صخر جرانيتي، ما رأيكم؟
في العتمة التالية رأيت ظله الليلي، شهق كالرعد وفرك رأسه الخرافي بجدران الخيمة، وهرب صوب ينابيع بعيدة ليعب مطفأ ظمأ الروح.
- ما هذه الأحافير؟!!
- إنها ثقوب عامودية لديدان بحرية تدعى سكوليثيوس .
- آه يا جمعة، كم أنت مولع بالنبش! جمعة.. ما تفسيرك لأشكال الصخور السريالية؟
- الرياح والزلازل، وتصادم صفيحة الجزيرة العربية مع كتلة الأناضول قبل 320 مليون سنة، بعد أن غمرت رم بمياه بحر ضحل خلفت هذه المستحثات (التربلوبايت).
- والحيوان الخرافي، الذي حك رأسه بالخيمة ليلة أمس يا جمعة.
- انه الضبع، مسالم ونبيه، ولا يأكل الغرباء.
الشمس ساطعة، رم تستحم، ارم ذات العماد والتي لم يخلق مثلها... الملك البابلي نابونئيد مر من هنا، هل تراه مر من هنا يا جمعة يزفه الطائر الأبلق؟! هل رأى حرذون سيناء الأزرق وابتسم ضاحكا من مشيته فوق الرمل؟!!
- عندما نصل إلى معبد اللات المشيد في زمن الملك النبطي أريتاس تتضح كل الحقائق.
وادي القمر من برتقال شرس، ترمقه عين لورنس، هنا ما من شيء سوى مطر خرافي، ناقة شهية شقراء، ونقوش أنفيشية لجمال يمتطيها حداة من طراز فريد.
- احترس من الرمال المتحركة يا مسكين، احترس.
- لا تخف يا جمعة، برج أم الفروس يهمس في جوفي ألا أخاف ظلما ولا رهقا، فاللذة العلوية لا يفوز بها إلا العارفون أيها البدوي الأنيق، ألم نحلق فوق الديسة بلابل من غيم خفي، لنهذي بين يدي عرافة أم الطواقي، وسيج لورنس يهمهم بنبرة تاريخية عرفنا مغزاها دونما ترجمان؟! ألم نعتل بشمم أبراج الخرزة ونغني الهجيني والعتابا، والشمس سنجاب أصفر يغطس خلف الرمل البعيد.
آه يا جمعة ! يا من نقشت حروفك في دواتي المنحنية في ارتعاشات شموع تبكي في آخر الليل! هل تراك أسرتني وأنا محض غريب بين كثبان رم؟! رم العرعر والمرمر وأغنية الزمن الجميل، رم مملكة الرمل والعشاق والليل الحزين، رم حيث مطر خرافي ونقوش غامضة وصخر شهي، رم المنتشية بزحف غصون التين البري، وطائر سيناء الوردي، وأبراج الجرانيت الأحمر، رم الصبية البدوية الحافية القدمين فوق رغبات من رمل هستيري كثيف.
- أراك تنوي الرحيل يا هذا،أشبعت من الفتنة.
- لا بد أن يعود اللحن إلى صباه، لا بد أن يفارق إغفاءة العود.
- وسواليف رم.. من يحكيها لك؟
- هناك في المرايا المقلوبة سأراك، معافى ومحبوكا بالنشيد.
آه يا جمعة، أيها الحنون مثل جلد الربابة إذ يجر عليها الفقراء في آخر الليل وأنت تطل علي من كوة الخيمة تلك التي حك حيوان خرافي رأسه بقماشها ذات عتمة، تبتسم وتومىء إلى البعيد ، البعيد.

(1) جمعة الزوايدة: بدوي من رم ، نقي السريرة وفطري السلوك ، يعمل دليلا سياحيا ، رافقنا في رحلة اكتشاف تفاصيل رم ، وذلك في المخيم الإبداعي الذي أقامته وزارة الثقافة (نيسان، 2007).
* قاص أردني