أمكنة

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
أمكنة

مجلة ثقافية تُعنى بأدبيات المكان


    معان ... جنوب القلب وقلب الجنوب

    أمكنة
    أمكنة
    Admin


    عدد المساهمات : 285
    تاريخ التسجيل : 16/12/2010

    معان ... جنوب القلب وقلب الجنوب Empty معان ... جنوب القلب وقلب الجنوب

    مُساهمة من طرف أمكنة 31/5/2011, 5:26 am

    مَعَان.. جنوب القلب وقلب الجنوب
    جلال برجس


    كل عام ييمم مشعلُ الثقافة، وراياتها، شطر مكان أردني، بحيث صارت المدن عواصم أبدية للثقافة، وهذا مبتغى كل من لامس طيرُ الكلام حافةَ قلبه. وها هو مشعل العاصمة الثقافية، الآن، وعلى صهوة ريح جنوبية، ييمم شطر معان، حيث المساءات الطافحة بالشعر، حيث الليالي المطعمة بالحكايات التي تذهب باتجاه الدهشة، حيث فضاءات الكلمة، وكلمة الفضاءات.

    من قلب عمان المترع بالحب سارت القافلة، ذات حلم، إلى حيث الأمنيات؛ إلى معان، ومرادها برق يلعج، في السماء الثقافة، وقد ازدهت معان بالثقافة، وازدهت الثقافة بمعان، بحيث يصير المكان المعاني وجهتها ـ بكل تجلياته. نحمل كلماتنا على طبق من أحلامنا باتساع الفضاءات؛ نحمل قصائدنا ـ على أهبة اللهفة ـ للقادم من غيوم الوعي ووعي الغيوم. القصائد، هناك، تصير أمطاراً تشد من قامة العشب في أرواحنا؛ فهذا العام أعشابنا «معانية»؛ حقولنا جنوبية؛ رياحنا جنوبية تأتي، الآن، على محمل الحب، تزاوج ما بين لقاحنا، تماماً، كما تحتفي بالنخيل الذي ما زال يمد قامته في سماء معان. هذا العام معدن القلب منجذب نحو قطب القلب الجنوبي، إذ تصير الكلمة جنوبية، ويصير الكلام جنوباً للأمنيات.

    لن أكتب، هنا، عن تاريخ معان، فهنالك مدن انتبذت لتاريخها مكاناً لا تمسحه الريح، فتاريخها ـ بيرقاً، في أعالي الذاكرة العصية على النسيان ـ كل الطرق تؤدي إليه، فالطريق طويلة إلى معان، كصدى لحداء رجل بلل قلبَه الحب، فراح يغني.. طويلة لكنها سهلة سهولةَ ظل الحبيبة على القلب؛ سهلة وأنت تيمم مدينة تمتد في أتون الرمال التي، دوماً، ترفع ذاكراتها الخرافية، وتحفظ ـ كما ينبغي ـ شكل الذكريات ووقعها. المدينة التي عجنها التاريخ، كما ينبغي للمدن العريقة؛ تلك التي تصّاعد منها أشجار النخيل، التي تبدو كما لو أنها قامات فرسان يحرسون المكان، جيداً. الطريق صحراوية إلى معان، لكنها وافرة على الروح؛ خصبة وأنت تسمع ما تبادر للمدى من حكايات الحجيج، ومن وقع سنابك الخيل على بطن الرمال، وهي تسرد للريح صهيلها.. الطريق، إلى معان، طريق إلى الجنوب، والجنوب ـ دوماً ـ منارة لإضاءتها، في القلب، انعكاساتٌ خصبة، تدلّك كلما لمسَ التيه حافّة القلب، وتدل القلب إلى هناك، حيث تسحبك المدن الجميلة من ياقة روحك، وتدلّك عليها بطريقتها الخاصة.

    أتذكر، الآن، يوم أتيتها قبل ثمانية عشر عاماً، كنت ما أزال تحت وطأة بقايا قصة حب فاشلة، والقلوب البدوية يلينها الحب والشِّعر.. كنت ما أزال عند تلك الكوّة التي تفضي للقصيد، بينما كنت أرى الريح قصيدة تعصف بي. في ذلك اليوم كان علي المرور بـ»معان»، باتجاه الصحراء الشرقية، حيث عملي ـ هناك ـ وسط مزاج الصحارى التي تعقد، مع الشموس، صداقة يعرفها العربي أكثر مما يعرف نفسه. كانت الحافلة تلتهم الطريق الإسفلتية بنهم، وهي تيمم الجنوب. من مسجلة في الحافلة كانت تجيء تلك الأغنيات الجنوبية، التي تهزّ نياط القلب، وترشّ رذاذاً على جفون البال، فيهدأ القلب ويستريح البال. لكن تستشيط الذاكرة بتباريحها، على أغنياتها الطوال، وفي البال قصيدة قالها الجنوبيٌ، تيسير سبول، ذات لوعة جنوبية، عندما كان يغذ خطاه على الرمال العربية، وهو يحكي لعصافير البال قصيدته «أحزان صحراوية»:

    «سار في عينيه وهجُ الشمس،

    والرمل وعود برمالْ،

    ومدى الصحراء صمتٌ،

    وعذابات ارتحالْ،

    فتغنّى،

    وسرى الصوت على مدّ الصحارى العربيةْ

    مودعاً ـ في الرمل ـ غصات أغانيه الشجيةْ»



    في الطريق إلى معان كانت ذاكرتي تلملم ما قاله الأقربون لي عن تلك المدينة التي انتبذت لها مكاناً في القلب، كانت ذاكرتي تلملم الحكايات، والأغاني، والأهازيج، وطقوس «السحجات» التي عرفتها الليالي المَعانية، كما يعرف العاشق سر قلبه.

    عندما عبرتُ باب المدينة، بينما الشمس ـ في تلك اللحظة ـ تهوي، وراء الرمال، بوجهها الأرجواني، كامرأة دهمتها الرعشة، كنت قد قرأتُ عبارة، عبر نافذة الحافلة، كُتِبَت بخطٍّ عريض: «معان في القلب». كان علي ـ في تلك الليلة ـ أن أعبرها ميمماً شطرَ الصحراء الشرقية، لكنني أرحتُ إبلي، إذ قلت لصديقي وأنا أهزّ غصن نخلة من نخيل (القصايل)، بعد سيل من الحكايات: معان في القلب، نعم في القلب يا صديقي.



    jalalghlelat@yahoo.com

      الوقت/التاريخ الآن هو 12/5/2024, 5:37 pm