أمكنة

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
أمكنة

مجلة ثقافية تُعنى بأدبيات المكان


    حيث الكهف والغابة "تَطِيرُ حَواليَّ البِلادُ بَرَاقِش

    رائدة زقوت
    رائدة زقوت


    عدد المساهمات : 177
    تاريخ التسجيل : 17/12/2010

    حيث الكهف والغابة "تَطِيرُ حَواليَّ البِلادُ بَرَاقِش Empty حيث الكهف والغابة "تَطِيرُ حَواليَّ البِلادُ بَرَاقِش

    مُساهمة من طرف رائدة زقوت 7/5/2011, 1:35 am

    غابات برقش أقرب ما تكون إلى الوجدان.. تتسلل فينا رائحة التراب مشبوبة بحاسة الانتماء واسترداد لحظات الصدق الطفولي.. فالمكان حالة وعي تعبر في أفق الدروب المضّاحكة حواريها.. البسّامة أقمارها.. فمن فوق تلك الربى التي استعارت من الجنة بعض قبس وبهاء تنهض الغابات غيىّ تندلق شلالاً أخضر.. تسامر نهر الأردن غرباً.. وتحرس كبرياء التاريخ في فحل التي تَسمَّت في أسفار المؤرخين والجغرافيين كورة فحل، حيث كانت مركز اللواء.
    في ناحية الجنوب من اللواء تتلهف الروح للقاء محمية الأحياء البرية في زوبيا ورأس برقش.. حيث تعبر أنفاس الصباح الغابة.. تحتضن أشجارها متلهفة للقاء في ذلكم الرأس الذي يُحَلِّقُ عالياً فيما يدنو من تسع ماية متر فوق مستوى البحر. هناك يوقظ المكان تذكارات الأماني.. وتعزف مع شفق الأفق شجي اللحن.. فيستحيل المساء قطر ندى وبيادر صبوات... فوق ذلكم الرأس المشرف على سهول حوران.. أهراء القمح والأخضر الممتد.. وصوت أحقاب التاريخ الخالدة التي تاقت لحوليات أوراقها الروح، يكتمل البهاء ويعمرنا اليقين بأن هاته الأماكن حبسنا وحريتنا بمحض الإرادة والاختيار.. نجوس تفاصيلها كما تجوس دواخلنا.. نتأمل الحكايا التي ارتجلناها عن جبل الشيخ وجبال الكرمل.. فيحتوينا المكان مفعما بشوق الخلايا لنفحة الروح الأولى التي استسلمت لسحر الطبيعة في غور بيسان الآسرة للخفوق في دواخلنا..
    في غابات برقش تسفر الأشجار عن حضورها المدهش الرابض قروناً في بحر الأخضر المتماوج.. وهي تعلن عن كم لا يحصى من أشجار البلوط والزعرور والبطم والسنديان.. وعن ذاك التنوع والغنى العظيمين في الغطاء النباتي والحيواني مما يمنحها الحضور والتميز..
    تعمر قامات أشجار الغابة الذي يسكن الصدور.. ففوق أوراق كل واحدة فيها وجوه نعرفها.. هي بعض ملامحنا.. لون الحياة في سيمياء وجوهنا.. وها هي أعشاب البرية وأزهارها، تمتد سجادة تتراقص الأوان فوق صفحتها.. تأخذنا عبر مساحة العمر مبدعة عشقاً وحميمية وبهاء..
    زرقة السماء في الأعالي وزركشات الطبيعة فوق الربى والسهول وتاريخ مجيد لا نطوي في الغياب صفحة تحوي سطرا من سفره، تمنح الأردنيين ذاكر الحنين.. وإكسير التشبث بالوطن.. فلا نكتمل بدونه... تلوذ به إرهاصات العمر.. وبطون الأسرار والغياب.. فيه تسترجع الحكايا صداها.. نوافذا على طفولتنا.. ودفاتر عشقنا.. وتأخذنا إلى أزقتة التي علق توهجها في حروف كتبنا المدرسية وأناشيد الصباح.. "موطني موطني..".
    سيان في سفر الوطن مَن مِن أبنائه يدفع مهر الجمال.. ويعلن الدهشة الأولى في الحضور والاستكشاف.. فحروف أسمائهم محفورة في سفر الوطن.. وتلويحة وجوههم السمراء مجبولة من قداسة ترابه.. فتلك السواعد القوية والأذهان المستنيرة والهمم العالية من أبناء الأردن حملت أمانة صون الحمى وبعث منجزه وتقديمة للعالم بما يليق.. حيث جاء الإعلان عن اكتشاف مغارة برقش ظاهرة جيولوجية فريدة.. ناجزت بجمالها كهف جعيتا في لبنان.. فقد مُنِحت المغارة من البتراء لونها الوردي، ومن مغارة جعيتا تلك الدلايات والكتل المخروطية الهابطة والصاعدة بتناسق عجيب يعود إلى ألفيات عديدة.. والكهف تجويف طبيعي ضخم يضفي مدخله إلى دهاليز تحتاج إلى مزيد من البحث والدراسة وإعادة التأهيل ليكون معلما سياحيا يليق بالمكان وتنوعه وجماله.
    وعلى امتداد الأفق الأخضر، وإبحارا في القرون الخوالي، وما اعتمر فيها من تجلٍ في الخلق الرباني والجهد الإنساني نهرب منا إلينا.. نحوم في مدارات الشوق.. نبدأ حيث اللحظة.. ندخل طقس التواريخ.. نستعيد نبض اللحظات على جدر القش والطين وقد كانت مرايا الوقت والفصول.. في تلكم المدارات تتغشى أمواج الأحاسيس ثواني العمر.. وتستوطن السعادة مساحات قلوبنا المفتونة بسحر المكان.. فإذا كان الماضي لا يعود فحسبنا منه بالأثر والذكريات.. فهي زادنا الذي يمنح شعاب الروح التشبث بقنديل الحياة الذي لا ينوس..
    لقد اطّوَّفْتُ في معاجم اللغات السامية علّي أجد أصلا اشتقاقيا غير عربي لاسم المكان برقش، فما وجدت فيها ما يقترب من الاسم إلا في الأرامية، إذ يرد حرف الشين أو الواو والشين علامة تصغير في نهاية الكلمة فيكون الاسم من برق ملحقا بأداة التصغير الشين. ولكن مع هذا تأويل نخشى الدخول في دائرة الوهم. وفي العود المحمود إلى معاجم اللغة العربية، مثل لسان العرب، نجد ما يروي الظمأ ويشفي الغل.. ويقترب بنا من كبد الحقيقة، ويعفينا من الدخول في دوائر التخمين والتهويم والزلل إذ يرد في اللغة العربية الفعل بَرْقَشَ، بمعنى هرب، فإن كان ثمة ما يهرب في محمية زوبيا فتلك الطيور والحيوانات البرية النافرة في أسراب السحر والجمال، ولكننا لا نطمئن إلى هذا المعنى، فنمضي مع صاحب لسان العرب ننشد المعنى الصراح، لنجد كلمة البَرْقَشَة، وهي التلوين بألوان شتى، فالنبت إذا لُوِّن سمي برقشة، وليس أبلغ من واقع الحال في الغابة التي حباها الله بتنوع بناتي والوان أزهار برية تكسوها سجادة مزركشة ومنقوشة بسحر طبيعي أَخّاذٍّ. وتقول العرب تبرقشت البلاد إذا تزينت وتلونت.. ولما كانت الغابة على ما هي عليه من سحر وجمال فإن اسمها يطابق ما يمضي به ابن منظور بقوله: "تركت البلاد براقش أَي ممتلئة زَهْراً مختلفة من كل لون؛ عن ابن الأَعرابي؛ وأَنشد للخنساء: تَطِيرُ حَواليَّ البِلادُ بَرَاقِشاً، بأَرْوَعَ طَلاَّبِ التِّرَاتِ مُطَلِّبِ".. فيا لأرض المحمية وهي تَنْبَقْرَش اخضراراً.. ويا لذاك الطائر الصغير من الحُمَّر المتلون الذي ينعته العرب البرقش.. فبأيها سميت الغابة وبأي دلالة تحلّت.. فإنه عربي تنسجم كل دلالاته ومعانيه مع اسم المكان برقش، والذي يسمية السكان المحليون بالظهر لإشرافه وعلوه عما حوله.
    إن الأمكنة الأردنية على اختلاف أعمارها ومواقعها وهج أُنْسِنا.. ودثارنا الحنون.. نتعلق بهدبها تعلقنا بإشراقة شمس ربيعية.. هي بعض من حقيقتنا.. كفل حياتنا.. حبل وصلنا الذي لا يتراخى.. نمده درب مسافاتنا على شغب الطفولة الندي.. نمدة درب مِضيٍ تارة ودرب عودٍ تارة أخرى.. وليبقى الوطن يقين اقتراب الخطى من ملاعب الصبا.. فالأماكن الأردنية حُجرات قلوبنا لو ندري.. قِبلة مشاعرنا.. كم كادت ذواتنا تنفلت من عقالها فيَحُزُّنا الضياع لولا حدبها وهمسها بأسمائنا التي نحب... ففي الأماكن التي نألف نمتطي الوجد شوقا يرتد صداه في كل الفصول عنوانا للدهشة.. ومذاقا للانعتاق.
    الدكتور سلطان المعاني

      الوقت/التاريخ الآن هو 8/5/2024, 11:05 pm