أمكنة

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
أمكنة

مجلة ثقافية تُعنى بأدبيات المكان


    المكان بوصفه مادة

    أمكنة
    أمكنة
    Admin


    عدد المساهمات : 285
    تاريخ التسجيل : 16/12/2010

    المكان بوصفه مادة Empty المكان بوصفه مادة

    مُساهمة من طرف أمكنة 28/4/2011, 9:58 am

    المكان بوصفه مادة

    * الاستاذ الدكتور هشام غصيب


    عام 1854 نشر جورج برنهارت ريمان عمله الرئيسي في الهندسة والذي يحمل العنوان “بصدد الفرضيات الواقعة في أساس الهندسة”، وشكل هذا العمل انعطافة كبرى في تاريخ الهندسة والفيزياء. إذ أرسى ريمان فيه نظرية عامة شاملة في هندسة المكان شكلت هندسة إقليدس وهندسة غاوس ولوباتشفسكي وبلياي وهندسة ريمان الإهليلجية حالات خاصة منها. وقد لخص ألبرت آينشتاين فضل ريمان في هذا الصدد بثلاث نقاط. فريمان كان أول من أشار إلى إمكانية أن يكون الكون كرويا، أي محدود الحجم وبلا حدود في آن واحد، وذلك بابتكاره الهندسة الإهليلجية الموجبة الانحناء والتي لا تتضمن فكرة الخطوط المتوازية معاً. وهي الفكرة التي استثمرها آينشتاين عام 1917 في بناء أنموذجه الكوني الذي شكل أساساً لعلم الكون الحديث. والنقطة الثانية هي أن ريمان عمم نظرية الهندسة وأرسى قواعد ما يسمى الهندسة التفاضلية التي تأخذ بعين الاعتبار تغير هندسة المكان من نقطة مكانية إلى أخرى ومن لحظة زمانية إلى أخرى، فاتحاً المجال أمام الرياضيين والفيزيائيين للربط بين الهندسة والفيزياء ومجهزاً إياهم بالإطار المفاهيمي اللازم لدراسة المكان الفعلي دراسة تفصيلية دقيقة. إذ أضحى المكان، في ضوء نظرية ريمان، نظاماً ماديا معقداً ذا بناء مجالي متشعب على قدم وساق مع المادة الجسيمية المألوفة. وفتح ريمان المجال لدراسة المكان رصديا وتجريبيا، شأنه شأن النظم المادية الأخرى. ذلك أن نظريته في الهندسة شكلت إطاراً واسعاً للخصائص الممكنة للمكان الفعلي ولغة محكمة لطرح الأسئلة الصحيحة بصدد خصائصه الفعلية، تاركاً الإجابات للفيزياء والتجربة الفيزيائية. بذلك حوّل ريمان الهندسة إلى نظرية فيزيائية قابلة للاختبار، شأنها شأن نظريات الفيزياء الأخرى. إذ، فيما كانت الهندسة قبل ريمان جزءاً لا يتجزأ من الرياضيات البحتة، وكان البحث فيها رياضيا بحتا، فقد أضحت بعد ريمان، في جانب مهم منها، جزءاً من الفيزياء النظرية، وأضحت من ثم قابلة للاختبار العملي شأنها شأن جميع قضايا الفيزياء النظرية.



    أما النقطة الثالثة التي تلخص بها إنجاز ريمان، فهي إدراكه العميق للعلاقة بين مادة الكون وبين خصائص المكان. وبصورة خاصة، فقد أدرك إمكانية أن تكون العلاقات الهندسية بين الأجسام معتمدة على الأسباب والقوى الفيزيائية. وكان ذلك أول إشارة إلى هذا الاعتماد، الذي بلّره آينشتاين وفصل معالمه لاحقاً في نظرية النسبية العامة. لكن ريمان لم يكتفِ بالإشارة إلى ذلك، وإنما أورد أيضا بعض التكهنات الخصبة جداً بصدد التركيبة المجهرية للمكان الفعلي وعدد أبعاده وما إذا كان متصلاً أم غير متصل على الصعيد المجهري. وهي تكنهات مهمة تشكل اليوم مادة أساسية للبحث الفيزيائي والرياضي النظري. ويظن بأن ريمان حاول أن يقدم تفسيراً هندسيا لخصائص المجال الكهرمغناطيسي وقوة الجاذبية على أساس نظريته العامة في هندسة المكان الثلاثي الأبعاد، إلا أنه أخفق في ذلك. وقد وافته المنية وهو في سن الأربعين في غمرة انشغاله بهذه المسألة.



    لكن ريمان لم يكن الرياضي الوحيد في الربع الثالث من القرن التاسع عشر الذي طرح فكرة العلاقة بين قوى الطبيعة والخصائص الهندسية للمكان. إذ شاركه في ذلك الرياضي الإنجليزي وليم كليفورد (1845 – 1879)، الذي عبرّ عن أفكاره في هذا الصدد في كتاب له بعنوان “المنطق العام للعلوم الدقيقة” صدر بعد موته بست سنوات. وهو كتاب مذهل بحق، حيث إنه توقع العناصر الأساسية لنظرية النسبية العامة قبل وضعها بست وثلاثين سنة! وقد ربط كليفورد بصورة صريحة ما بين انحناء المكان الريماني وبين خصائص المادة وقواها. وتساءل عما إذا كانت قوى الطبيعة، بعضها أو كلها، مظاهر مختلفة للتركيبة الهندسية للمكان. ولفت النظر إلى إمكانية أن تكون بعض الظاهرات المألوفة جداً في بيئتنا تعبيراً عن انحناء في المكان. وبالفعل، فقد تبين لاحقاً في نسبية آينشتاين العامة أن حركة مألوفة كحركة القمر حول الأرض مثلاً إن هي إلا تعبيراً عن انحناء الزمكان السالف ذكره. كما لفت كليفورد النظر إلى إمكانية أن يكون انحناء المكان متجانساً، أي هو نفسه في كل نقطة مكانية، وأن يكون متغيراً في الزمان. وهذا بالفعل ما أكدته نظريات الكون الحديثة التي تفيد بأن الكون يتمدد، أي يتغير انحناؤه مع الزمن. كذلك أشار كليفورد إلى إمكانية أن يكون هناك تذبذبات في انحناء المكان تنتقل من نقطة إلى أخرى. وهي التذبذبات التي أخذت تعرف بأمواج الجاذبية التي ما زال البحث عنها على أشده اليوم. وحاول كليفورد تفسير المجال الكهرمغناطيسي بدلالة انحناء المكان، لكنه أخفق في ذلك. لكنه أصرّ على فكرة إمكانية أن يكون الوجود المادي برمته مظهراً لهندسة المكان، وهي الفكرة التي طورها لاحقاً (في النصف الثاني من القرن العشرين) الفيزيائي الأميركي جون ويلر.



    وهنا لا بدّ من طرح السؤال: لماذا أخفق ريمان وكليفورد في ربط قوى الطبيعة بهندسة المكان، في حين أفلح آينشتاين في ذلك بعدهم بحوالي أربعين عاماً؟ هذا ما سنبينه في المقالة اللاحقة.

    المصدر:http://www.ghassib.com

      الوقت/التاريخ الآن هو 9/5/2024, 1:32 am