أمكنة

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
أمكنة

مجلة ثقافية تُعنى بأدبيات المكان


    فنّ معرفة المكان عند ابن عربي

    أمكنة
    أمكنة
    Admin


    عدد المساهمات : 285
    تاريخ التسجيل : 16/12/2010

    فنّ معرفة المكان عند ابن عربي Empty فنّ معرفة المكان عند ابن عربي

    مُساهمة من طرف أمكنة 28/4/2011, 9:51 am

    فنّ معرفة المكان عند ابن عربي
    محمد المصباحي : كاتب من المغرب

    يتكلم ابن عربي في الفتوحات المكية عن فن معرفة الأماكن، وهو فن الإحساس بالزيادة والنقصان في الأماكن المختلفة، فن الشعور بتأثير الأماكن الشريفة في القلوب اللطيفة. ومعرفة هذا الفن شرط من شروط تمام العارف وعلوّ مقامه في نظر الشيخ الأكبر. هكذا يظهر منذ البداية أن المبدأ العام الذي يقوم عليه فن معرفة المكان ينص على تفاضل الأماكن والمنازل الجسمانية، وأنها ليست سواء في رتبتها وتأثيرها وكثافتها الروحية، قياساً على تفاضل المنازل والمقامات الروحانية. فوجود قلوبنا في بعض المواطن أكثر روحانية وفضلا من وجودها في أمكنة أخرى، ولهذا نراه يقول عن روحانية إقليم الأندلس في سياق كلامه عن أنواع الأخلاق الصوفية:
    ومن هذه الأخلاق خُلق إعدام الأسباب في عين وجودها ، وهو علي مراتب، وقفت منها في الأندلس على مئة مرتبة، لا توجد في الكمال إلا في روحانية ذلك الإقليم، فإنه لكل جزء من الأرض روحانية علوية تنظر إليه، ولتلك الروحانية حقيقة إلهية تمدها، وتلك الحقيقة هي المسماة خُلُقا إلهيا (الفتوحات المكية، بيروت، م 2، ص 73).
    إن هذا القول هو أول درس في جغرافية الأمكنة الروحانية، والجغرافية مرتبطة بالطريق وبخريطة الطريق، ألَم يُسمَّ علم التصوف بعلم الطريق؟ لكن الطريق مسلك للحركة والعبور، وقد تكون طويلة وشاقة، ولهذا كان لا بد من أمكنة للراحة فالمكان رحمة حيث كان، لأن فيه استقرار الأجسام من تعب الانتقال (387: 2)، وكأن الطريق يوجد مقابلا للمكان، الأول للحركة والتغير، والثاني للسكون والثبات. غير أن الثبات في المكان لا يعني الثبات في الوجود فإنه لا يصح الثبوت على أمر واحد في الوجود، فالمكان ثبوت في المكانة، كما نقول في التمكين أنه تمكين في التلوين، لا أن التلوين يضاد التمكين (م 387: 2)
    إذن على المريد أن يعرف تضاريس المكان، ويختار من الأماكن ما يلائم سعيه وحاله ومقامه ونوع رغبته في الاتصال. فالوجود في مكان شريف أو محل أو منزلة رفيعة هو بمثابة طريق مباشرة نحو تذوق المعرفة العرفانية. وبهذا الاعتبار لم يعد المكان حجاباً، وإن كان ينتسب مبدئيا إلى العالم المادي، وإنما الحجاب هو في غفلة الإنسان عن قَدْر مكان ما بالقياس إلى آخر. هكذا تصبح معرفة علم المكان من فروض تحقيق الوصول وأداة مساعدة لإنجازه.
    وبصفة عامة، يرتبط المكان عند شيخ مورسية بأربعة أمور: الرحلة، والتجربة الروحية، ولقاء الرجال والنساء، والكتابة. كانت الرحلة صفة ذاتية لحياة ابن عربي الواقعية والروحية. ولئن لم يكن المكان هو الغاية من الرحلة، فهو على الأقل المحرك الأول للقيام بها، لأن الوقوف في الأمكنة الشريفة يسهل الاتصال والرؤية الخارقة ؛ كانت أحلامه ورؤاه وكشوفاته الروحية هي البوصلة التي توجهه نحو أخذ هذه الطريق أو تلك في سفره ؛ وفضل المكان وشرفه الروحي وقدرته على التأثير والوساطة ترجع إلى حقيقة وهِمَّة الساكنين فيه أو المارين عليه من الرجال والنساء ؛ أما الكتابة فكانت معجزة ابن عربي الكبرى، وكانت لها علاقة صميمية بالمكان، فهو يروي مثلا أن كتاب الفتوحات المكية كتبه في أقدس مكان، مكة.
    إذن حظي فن الأماكن عند الشيخ الأكبر باعتبار خاص، جعله يوصي المقبلين على تجربة التصوف بالاطلاع عليه لسببين علي الأقل:
    1 ـ لأن هذا الفن يشكل أحد المفاتح الأساسية للكشف. ذلك أن أول شيء على المريد أن يتعلمه أن الأماكن ليست سواء في قيمتها الروحية، وأن حكمها ليس واحداً، بل تتعدد أحكامها حسب رتبتها وشرفها. وهذا معناه أن التجربة الصوفية تمر عبر التعلق بمكان أو بأمكنة لِمَا تتميز بها من طاقة روحية يمكن أن تتفجر في ذات المريد. إن ولع ابن عربي بمسجد الأزهر بفاس لم يكن بالصدفة، ففيه حقق جملة من الرؤى والفتوحات العجيبة. ولعل هذا الاعتبار الاستثنائي للأمكنة هو الذي يقف وراء ولع المتصوفين بالرحلة. والمكان المقصود هنا ليس فضاءً فارغا بالمعنى الهندسي، أو صورة متخيَّلَة لعمارة ما، بل هو مكان موجود ومحدد في جغرافية الأرض وأنتروبولوجية وتاريخ الناس، متمثلا في مدينة، أو زاوية، أو مسجد، أو بستان.
    ومما لا شك فيه أن أهمية مكان ما لا ترجع إلي جمال عمارته، أو مهابة هندسته، ولا حتى إلى موقعه الفلكي وخصائصه الرياضية، وإنما إلي عمارته الروحية، ففرق كبير بين مدينة يكون أكثر عمارتها الشهوات، وبين مدينة يكون أكثر عمارتها الآيات البيّنات (1: 99)1. بالإضافة إلى البُعدين الانفعالي والإيماني، تعود قيمة المكان وثراؤه الروحي في جزء كبير منه إلى تفاعله مع همم الساكنين فيه:
    ولهذا يرجع تفاضل المساجد في وجود القلب، لا في تضاعف الآجر. فقد تجد قلبك في مسجد أكثر مما تجده في غيره من المساجد، وذلك ليس للتراب، ولكن لمجالسة الأتراب أو هممهم. ومن لا يجد الفرق في وجود قلبه بين السوق والمساجد، فهو صاحب حال، لا صاحب مقام (1: 99).
    هكذا نجد أنفسنا أمام مقولة أنتروبولوجية هِمِّية (من الهمة) للمكان، مقولة يتداخل فيها المكان والمتمكن تداخلا صميميا لا انفكاك فيه.
    2 ـ السبب الثاني الذي يقف وراء ضرورة معرفة فن الأماكن، هو أن هذا الفن يُخبِرنا بوجود تبادل بين الجسمي والروحي، بين الموضوعي والذاتي، مما يعني أن قَدْر الإنسان متناسب مع المكان الذي يحل فيه، أو قل إنه يزيد أو ينقص بمقـــدار الجاذبـــية الروحية التي توجد في المكان.
    ومن البيّن أن الزيادة والنقصان تكون على مستوي الشعور والوجدان، أي على مستوي القلب، فوجود الإنسان في المكان الشريف يُشعِره بالزيادة في كثافته الروحية، ووجوده في المكان الخسـيس يُشعره بالنقص، أي أن ... وجود قلوبنا في بعض المواطن أكثر من بعض (1: 99)2. وهذا أمر عجيب من أهل الوجود والكشف، لأن مقدار الوجود صار يتأرجح حسب أحد أعراضه، وهو المكان. من أجل ذلك، جعل ابن عربي الاطلاع على فن قياس الوجود بحسب قيمة الأماكن من تمام التجـربة الصوفية: ولا شك عندنا أن معرفة هذا الفن، أعني معرفة الأماكن، والإحساس بالزيادة والنـقص، من تمام معرفة العارف وعلـوّ مقامه، وشرفه على الأشياء وقوة ميْـزه (1: 99)3. فمَن لم يذق معنى الزيادة والنقص في الوجود بحسب الأمكنة، لا يُعوَّل عليه في الطريق، طريق الكشف والعرفان. ومعنى ذلك، بعبارة أخرى، أن حيازة ملكة الإحساس بأهمية المكان، أو بالأحرى حيازة ميزان قياس مقدار المكان، علامة من علامات كمال المريد، لأنه يؤشر على وجود تبادل للتأثير بين المكان والمتمكن، بين المقامات الروحانية والمنازل الجسمية؛ من هنا تبرز أهمية مكة التي تمنح أسمي وجود للإنسان:
    من شرط العالِم المشاهِد، صاحب المقامات الغيبية والمَشاهد، أن يعلم أن للأمكنة في القلوب اللطيفة تأثيرا. ولو وجد القلب، في أي موضع كان، الوجود الأعم، فوجوده بمكة أسنى وأتم. فكما تتفاضل المنازل الروحانية، كذلك تتفاضل المنازل الجسمانية... فالحكيم الواصل هو من أعطى كل ذي حق حقه، فذلك واحد عصره، وصاحب وقته (1: 98ـ99).
    إذن لم يستعمل ابن عربي اسم المكان في معناه المطلق، بوصفه صورة فارغة ولانهائية، لم يستعمله كأينية مؤطرة للأشياء، بل باعتباره صورة محدودة وممتلئة بشتى الرموز والإشارات: الحسية والروحية، التاريخية والرؤيوية، الدنيوية والأخروية ؛ وحتى عندما يصف المكان بأوصاف هندسية، كالاستواء، والمعية، ويلقبه بألقاب فلكية كالسماء، والأرض، فإنه يفعل ذلك بالإحالة على آيات بينات من القرآن الكريم (انظر 2: 386).
    إنه لم يستعمل المكان بمعنى الفضاء المحايد، أو الفراغ السلبي والعاطل الذي لا فعل ولا أثر له على المتمكن فيه، بل كان يستعمله بمعني كثيف روحيا، زاخر بأنفاس عطرة تجعله يتعلق به تعلقاً ذاتيا ؛ لم يكن المكان الأكبري واحدا متسقا متساوي الأطراف، بل كان مكانا متفاضلا في رتبه الروحية، مختلفا في تضاريسه القدسية ؛ لم يكن مكانه مكانا تابعا للحساسية أو العقل، مكانا فيزيائيا أو رياضيا، وإنما كان مكانا روحيا تتقاطع فيه الذاتية بالموضوعية، التاريخ الوضعي بالتـــاريخ المقدس، البعد الدنيوي بالأخروي، الدلالة الاجتماعية بالدلالة الأسطورية.
    كان المكان بالنسبة إليه قادرا على تكثيف الوجود إلى درجة تحويله إلى وجدان عطر ونَفَس حيّ. كان المكان بالنسبة إليه مسرحا برزخيا تدور فيه مشاهد الذي أتى ويأتي وسيأتي على نحو تمثيلي محاكٍ لما جري وما سيجري، كان المكان بالنسبة إليه مكان لقاء مع الله، مع الأولياء والأنبياء لإثارة وإنتاج رؤي ومعجزات وكرامات.
    والكلام عن المكان يقتضي منا الكلام عن العين التي تراه، وعندئذ ينشأ السؤال التالي: هل الاختلاف في تقدير المكان راجع إلي مرتبة المكان في ذاته، أم إلى العين التي تراه؟ ونظرا لكون المكان اسما مشتركا في دلالته مع اسم المكانة، فإننا نتساءل هل المشهود من موقع المكان هو نفسه من موقع المكانة، عِلْماً بأن المكان للثبات والمكانة للتحول؟ الوسيلة المفضلة لدى ابن عربي للخروج من هذه المآزق هي تنويع دلالة الأسماء، هكذا صار للعين عدة وظائف:
    وأما شهودهم من حيث المكانة فتختلف عيونهم باختلاف النِّسَب: فالعين التي يشهدونه بها في كذا ليس العين التي يشهدونه بها في أمر آخر؛ والمشهود في عين واحدة، والشاهد من عين واحدة، والنظرة تختلف باختلاف المنظور إليه؛ فمنّا من يرى اختلاف النظر لاختلاف المنظور، ومنّا من يرى اختلاف المنظور لاختلاف النظر، وكل له شرب معلوم؛ فالمكان فراغ ربك، والمكانة تطلب كل يوم هو في شأن وسنفرغ لك الثقلين. فجاء بلفظ الثقلين إعلاما من خاطب ومن يريد، ونحن مركبون من ثقيل وخفيف، فالخفيف للمكانة والثقيل للمكان (2: 386ـ387).
    فمن أين يأتي التبدل المستمر للمكان والعين الشاهدة له، وهما ثابتان؟ إنه يعود لا محالة إلى المكانة، لا إلى المشهود أو الشاهد، لأن كليهما عين أو في عين واحدة. (هنا يجب أن نحتاط من تقلب لفظ العين، فقد يعني آلة النظر وقد يعني الهوية والوجود). والمكانة ترجع بدورها إلى النِّسب التي تتخذها العين من المشهود، أو قل إن المكانة هي القدرة على تغيير جهات النظر إلى الأشياء حسب مقتضيات الهمة. وإذا كانت طبيعة العين تتبدل حسب طبيعة المشهود، فإن طبيعة المشهود هي أيضا تتغير حسب نسبة العين الناظرة إليه. فالعين التي نرى بها المقدس ليست العين التي نرى بها الممنوع، والعين التي نرى بها الجمال ليست العين التي نرى بها الجلال، والعين التي نرى بها المعاني ليست العين التي نرى بها الصور، والعين التي نرى بها البرزخ ليست العين التي نرى بها الأمرين اللذين يفصل بينهما، البرزخ. ولا منفعة في الدخول في لعبة تقابل المذاهب المتصلة بأسبقية النظر أو المنظور، فلنسلّم بحق من يري اختلاف النظر من اختلاف المنظور، كما علينا أن نسلّم بحق من يعتقد أن اختلاف المنظور من اختلاف الناظر، فلكل شرابه، بشرط أن يحوّل المكان مكانة، عملا بالمبدأ الذي يقول المكان إذا لم يؤنث لا يُعَوّل عليه، يعني المكانة . ومتي تم تأنيث المكان طلب التقلب والتحول في النِّسب حتى يكون في كل يوم هو في شأن ، فتتحول معه الأشياء بتحول مكانته، وبالتالي نظرته إليها، وهِمَّته نحوها. فالإنسان هو الذي يصنع المكان من حيث هو مكانة، لكن الإنسان بدون المكان، وبخاصة المكان المؤنث، لا يُعوَّل عليه.
    1. فضلنا قراءة عثمان يحيى، حيث أضاف إلى النص كلمة فرق ، انظر الفتوحات المكية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1985، السفر 2: ص 121.
    2. ويفسر ميل القلب لمكان دون آخر بقوله وذلك من أجل مَن يعمّر ذلك الموضع، إما في الحال من الملائكة المكرمين أو من الجن الصادقين، وإما من همة مَن كان يعمّره وفُقِد، كبيت أبي يزيد الذي يسمي بيت الأبرار، وكزاوية الجُنيد بالشونيزية، وكمغارة ابن أدهم باليقين، ما كان من أماكن الصالحين الذين فَنَوْا عن هذه الدار وبقيت آثارهم في أماكنهم تنفعل لها القلوب اللطيفة. ولهذا يرجع تفاضل المساجد في وجود القلب لا في تضاعف الآجر ، نفسه، ن.ص.، وقد فضلت قراءة عثمان يحيي، السفر 2، ص 121.
    3. ويروي عن أحد شيوخه بأنه أخبره بأنه يُحس بالزيادة والنقص على حسب الأماكن والأمزجة، ويعلم أن ذلك راجع أيضا إلى حقيقة الساكن به، أو همته كما ذكرنا. ولا شك... (1: 99)، انظر تحقيق عثمان يحيى، السفر 2: 123 .



    المصدر : موقع البديل العراقي .

      الوقت/التاريخ الآن هو 10/5/2024, 10:12 am