أمكنة

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
أمكنة

مجلة ثقافية تُعنى بأدبيات المكان


2 مشترك

    تايوان: بلاد الماء ولغة الغمام

    أمكنة
    أمكنة
    Admin


    عدد المساهمات : 285
    تاريخ التسجيل : 16/12/2010

    تايوان: بلاد الماء ولغة الغمام Empty تايوان: بلاد الماء ولغة الغمام

    مُساهمة من طرف أمكنة 12/4/2011, 11:05 am

    تايوان: بلاد الماء ولغة الغمام 2
    تايوان، بلاد الماء ولغة الغمام






    جلال برجس*
    كانت الطائرة قد حطت رحالها في مطارتايبيه عند منتصف الليل، حيث المدن التي لا تنام باكراً، والفصل صيف يليق بالتحليق، ويليق بكاميرا الذاكرة أن تسجل مشاهدها المشتاة. مابين نقطتي الإقلاع والهبوط،، عشرون ساعة، تخللتها أربع ساعات استراحةٍ لمسافر، في مطار بانكوك الدولي، حيث بانوراما الوجوه واللغات واللكنات والألوان. صورة المحيط والأنهار والغيوم والبنايات بدت كبثور على ظاهر يد فتية، كانت ما تزال تؤثث الذاكرة في تلك اللحظة التي شرعتُ فيها بترك مطار تايبيه، حيث اصطحبنا أصدقاءٌ تايوانيين، أنا والصديق" نايف الحميدي" الذي كان في تلك اللحظة يلملم شتات الصور في ذهنه، إلى حافلة سوف تيمم بنا فيما بعد شطر مدينة تقع على بعد خمس ساعات من المسير جنوباً في الحافلة.


    إنها " بنغ تونغ" وتايوان، بلاد الماء ولغة الغمام.

    في الليلة التي حزمت بها أمتعتي في الأردن، لم أكن قد نمت بما فيه الكفاية، أمضيت الرحلة الجوية في القراءة تارّة، وفي الحديث لسيدة بريطانية سوف تربطني بها بعدئذ علاقة وطيدة، وقد عرفت أنها فنانة تشكيلية ، مع ذلك رأيتني وقد استسلمت لسلطان النوم وقد أخذني نحو نومة عميقة، كما لو لم يغمض لي جفن منذ دهرْ،، إ أفقت على صوت وخزات صديقي في كتفي وهو يحضّني على النهوض: أصحَ يا رجل لقد أشرقت الشمس، سوف تشاهد ما لم تشاهده من قبل. أفقت على صورة أثثها الماء، والاخضرار، والطير، والأفق الأزرق الصافي. صورة لطبيعة سوف تجد لها مكاناً حافلاً بالفرح في ذاكرة رجل صحراوي حدّ قِدَم الرمال في الهاجرات العربية. لدقائق لم أستطع أن أشيح بصري عن عوالم الطبيعة الآسيوية الفاتنة.طلبت من مضيفة الحافلة فنجان قهوة، واستثناء لإشعال سيجارة، في تلك البلاد التي قلما يدخن أهلها، بخلافنا نحن الذين بسبب القلق الأزلي، ندخن بشراهة كأن قلوبنا تتغذى بالنيكوتين. قالت لي بصوت خفيض يشبه النفخة الأولى في "فلوت"، وبلكنة انكليزية ركيكة، وهي تقدم لي القهوة: هل ترغب بسماع شيء من الموسيقى سيدي؟ نظرت في وجهها الطفولي، ووددت لو أسألها: هل رأيت راية الحزن على هامتي؟ فقفزت ببالي فيروز بكامل أبهتها، لكنني تذكرت أنني في بلاد بعيدة، ربما نعثر فيها على أشخاص بعدد أصابع اليد فقط يتكلمون العربية، فسألتها عن موجوداتهم من الكاسيتات الموسيقية فذكرت قائمة جاء اسم أندريه بوشيللي" من ضمنها، فأدرات مفتاح المسجلة، وراح "بوتشيللي" يغني. لم أكن أعلم أن باب القلب إن أُشْرِع لا يوصد مرة أخرى، ويبقى عرضة لوخزات منتظمة كدقات عقارب ساعة كلاسيكية.

    عشرون عاماً من مزاج صحراوي، بكل قسوته وهجيره ولياليه الشرقية كانت ترافقني، إذ تتقاطع صورة الرمال والهاجرة وهي تبدو كبحر ضارب في اتساع المسافة، بالسهوب الخضراء والشموس الموسمية. تتداخل مشاهد لشجرة وحيدة في صحراء قفر مع شجرة تقف في عقر تراب يشهق من فرط شهوة الماء، كان صوت "بوتشيللي" يجيء في ذلك الصباح المبكر، كما لو أنه أصبع ينهر روزنة الحنين التي تعرف ما يمكن لها أن توزع من شوك الوجع. كان صديقي القادم من الجنوب المعنّون بشموس تموز الحارقة صيفاً، والممهور ببرد الأربعينية القارص شتاء، يهمس بأذني ، وهو يرى لغة الشجر والماء سادرتين في جسد المكان: ألهذا مازلنا قساة؟ فهمست بأذنه، لهذا السبب نكتب شعراً جيداً يا صديقي، لأننا بمخيلات واسعة نشتهي الأخضر ونشتاق الغمام. ضحكنا بصوت مرتفع كما لو أننا تبادلنا نكتة جديدة.

    كانت الحافلة تلتهم المسافة على تلك الطريق العريضة بمساربها العديدة، وقد انطلقت قبيل اغفاءتي من تايبيه التي تمازجت لغة الأسمنت والكهرباء والإلكترون بها، بلغة الماء والشجر، بينما زجاج النافذة صار شاشة تعرض، مشاهداً للبيوت الجميلة ، ونحن نوغل عبر سلسلة من المدن( تايبيه، هيسنت تاشو ، مياولي، تايتشنغ، نانتو، تشياي، تاينن، تاي تنغ، كاوشنغ، بنغ تنغ) المدن التي لم يتسن لي رؤيتها في الطريق مابين " العاصمة تايبيه شمالاً، وبين " بنغ تونغ" في أقصى الجنوب. المدن التي حفلت ببيوت، بنيت على طراز يتقاطع فيه الماضي بالحاضر، وبالأخضر الذي رأيته عنواناً لتلك البلاد. تلك كانت الزيارةالأولى لي لتايوان، والزيارة الأولى لشرق آسيا التي ستستمر لثلاثين يوماً، طُبعت على جدار الذاكرة ، فالبلدان التي تقدم لك وأنت تعبر بابها وردة من حقل روحها، لا تسمح لك بنسيانها أبداً.

    تايوان: بلاد الماء ولغة الغمام 1_1


    بقيت مشاهد مزارع الأناناس والأرز وأنواع أخرى من الفاكهة، والمنحوتات والتماثيل، والأشكال الغربية للأشجار تتناوب في الذهن .عندما هبطنا عند بوابة الفندق في بنغ تونغ، وقد خلّفنا وراءنا حيزاً في الحافلة، "مكيّفاً" بالبرودة. هاجمتنا حرارة تبثها شموس موسمية، تتمطى في المدى كجنية من لهب. وما هي إلا ثواني حتى سمعنا هدير الرعد تبعه هطول غزير للمطر، وقد تحولت الشوارع إلى مشهد من مظلات، بألوان وأشكال عديدة. من شرفة الطابق السابع عشر، أزحت الستارة عن النافذة الزجاجية العريضة،رأيت السماء كرنفال مطر ، وصوت المطر موسيقى تسحب الحنين إلى كرسي البكاء، والبكاء في لحظات معينة، يوقف ذلك البندول الذي يروح ويجيء في البال. منذ عمر وهذا البندول لا يتوقف في دماغي، كما لو أنه تميمة . أشعلت سيجارة، وشهقتُ دخانها بعمق وأنا أغمض عينيّ، كما لو أنني أستعيدني إذ جاءت المشاهد في البال متتالية كقصيدة ذات حبر سرّي. تمددت في السرير، بينما النافذة مازالت تجيء لي بمشهد المدينة الطري، لقد توقف المطر وأغلقت المظلات، وعادت اللحظة إلى ما كانت عليه، كما لو أن مطراً لم يجئ، إلا تلك الأشجارالتي بقيت قطرات الماء تتساقط منها كلآلئ من كوكب بلّوري. من حقيبتي أخرجت دفتراً صغيراً كنت والطائرة تمخر عباب الغيم والمسافات، قد خرّبشت عليه بضع كلمات بدت كومضة أولى لقصيدة، أعدت قراءتها أكثر من مرة ، تحررت من قيد الجاذبية، وما رأيتني إلا وقد رحت في إغفاءة، أفقت بعدها على قرع جرس هاتفي النقال لمرّات متتالية، إذ كانت صديقتي التايوانية " بنغ فال" التي درست اللغويات وزارت عمان وبيروت ومصر. جاء صوتها فرحاً وهي تحدثني تارّة بعربية ركيكة، وأخرى بانكليزية مفعمة بلكنة شرق آسيوية: ها أنت إذن في تايوان. تحدثنا بكلمات قصيرة واتفقنا على لقاء في مقهى يقع في المدينة " بنغ تونغ" . عبر النافذة بدت بنغ تونغ كتلة من مصابيح كهربائية بألوان جمة.أجريت مكالمة مع أهلي في الأردن، كانوا قلقين من الرحلة التي تبعد مسافة يوم في الطائرة وبضع ساعات، طمأنتهم عليّ ثم استحميت وبدلت ملابسي، وحملت بعض الكتب التي طلبتَها مني " بنغ فال" مسبقاً وخرجت. من غرفة الاستقبال في الفندق أخذت بطاقة الفندق الممهورة بأرقام الهواتف والعنوان تحسباً لتيه قد يأخذني إلى حيث لا أستطيع العودة في هذه المدينة التي أجهلها. أعطيت سائق التاكسي ورقة كتبت بها العنوان كما وصلني من صديقتي، عبر رسالة على الموبايل، ومن دون كلام انطلق بي، لأن سكان تلك البلاد قليلاً ما يتحدثون اللغة الانجليزية، إلا الأجيال الشابة. بدت "بنغ تونغ" في تلك الليلة كما لو قد تجهزت لاحتفال ما، شوارعها مضاءة كما لم أر من قبل، هادئة ونظيفة، تدور حول قلب زائرها وهي تحمل شموعاً وعطراً، فتشعر بالذهول رغم تلك الحرارة التي لم نعتدها نحن أبناء البلدان التي يجيء الشتاء بها مصحوباً البرد. في بنغ تونغ تشعر بالفارق الكبير بين مُدن تعطيك عند بوباتها مسحة من كهرباء وإلكترون، ومدن تسقيك من مائها النقي.

    عند باب المقهى كانت " بنغ فال" في انتظاري، بشيء من الترقب، لأننا التقينا فقط عبر نافذة العالم الافتراضي الذي جسّر المسافات بين أبناء البشرية كما خلق هوة كبيرة. لم تنتظر إلى حين أدفع أجرة التاكسي وانضم لها، فقد هرعَت إليّ وهي تنادي بلكنتها المميزة، جلال.. جلال . ثم عانقتني وهي تردد عبارة لطالما كتبتها لي ونحن نتحدث عبر الانترنت: المطر في بنغ تونغ يجيء كل لحظة، وفي كل قطرة منه قصيدة لك، أيها الشرقي الحزين. عبرنا بوابة المقهى ثم جلسنا إلى طاولة تطل على الشارع الذي ينبض بإيقاع المارة والعابرين، تحدثنا طويلاً، عن الشعر، واللغة، عن عوالم الشرق، وعن كثير من الأشياء التي كانت مواضيع للحوار بيننا عبر العالم الافتراضي، قرأت لي من قصائد " تشن تشاو تشنغ"، وقرأت قصيدة لها كانت قد قامت بترجمتها بنفسها إلى العربية. أمسكت بي من يدي وهي على أهبة المغادرة: أنت لم تجئ إلى هنا لكي تجلس بين أربعة جدران، تعال سأريك بنغ تونغ بطريقتي الخاصة، فغادرنا المقهى. استقلينا سيارتها وانطلقنا عبر شوارع المدينة التي رأيتها أنظف مما ينبغي، وأكثر مما أحمل من فكرة قديمة عن شرق آسيا. كان لبنغ فال ولبنغ تونغ وقع خاص يشبه ملامسة شعرة لوتر كمنجة مضبوط بحساسية، امتدت يدها إلى المسجلة وجاء صوت فيروز، فدهشت، قالت أنها جلبت مجموعة من الأقراص المدمجة من بيروت التي زارتها مؤخرا.

    ربما عرفت بنغ فال كيف تجعلني أرى بنغ تونغ، وربما أيضاً كيف أرى قلبي. وهي تشعل سيجارة وتمد واحدة لي قالت بهمس: أما زلت تحبها؟ إذ رأيتني أجيب والمدينة معرض من لوحات تنسدل أمام عينيّ: أكثر مما ينبغي. ساد الصمت بينما السيارة تسيل بهوادة على الطريق، في دواخلي كنت أعرف أن " بنغ فال" تودني، لكنه ود نما في عالم افتراضي لا أطمئن له. طافت بي تلك الليلة في أرجاء المدينة حيث أخذني سحر أمكنة احتلت في القلب مكانة كبيرة، اصطحبتني إلى شوارع شعبية بمطاعم في الهواء الطلق، تقدم للزبائن موقداً للطهي على كل طاولة، كل يطهو ما يريد في احتفال يتكرر كل يوم. وعرّجنا على مقهى يلتقي به شعراء وفنانون وأدباء، ورتبت تلك الليلة لي أمسية سوف أقرأ فيها في ما بعد بعضاً من قصائدي التي ترجمتها بنفسها. عند الفجر توقفت السيارة أمام باحة الفندق، وقد اتفقنا أن نلتقي في الأسبوع ثلاث مرات بعد أن أنتهي من ارتباطي بالمعهد الذي أتلقى فيه دورة هندسية. المسافة بين الفندق وبين المعهد تستغرق نصف ساعة في الحافلة، أقطعها كل يوم ماعدا عطلة نهاية الأسبوع، عبر تلك المسافة ألفت الوجوه، والمطر، والموسيقى، وابتسامات المارّة لزائري البلاد.

    في بنغ تونغ لك أن ترى العلمَ والشعر يسيران جنباً الى جنب، يعرف الناس هناك كيف يتدبرون أمر قلوبهم وأمر متطلبات الحياة. في المتاجر لك أن تجد المشروبات الغازية، لكنهم يشربون عصائر ابتُكرت حتى من الأعشاب، وفي الشوارع تنتشر مطاعم الوجبات السريعة على الطريقة الأميركية ، لكنّ وجباتهم في معظمها مما أعطاه البحر لهم هي المفضلة لديهم. في الحديقة بينما كنت أجلس بمعية بنغ فال سألتها عن صوت تلك الموسيقى الذي أسمعه كل يوم ، قالت إنه صوت عربة القمامة ، في كل شارع تطوف واحدة، وما على الناس إلا أن يلقوا بأكياس القمامة في تلك العربة. في الليلة التي تركت بها بنغ تونغ متجها إلى تايبيه شمالاً، ثم إلى المطار الذي سوف يدفع بي إلى بانكوك ثم إلى عمان، كنت قادماً من كاوتشنغ إذ أمضيت وقتاً هناك بمعية بنغ فالعلى ضفاف " نهرالحب" كنا نجلس على ضفاف النهر الذي اكتظت ضفته بالعشاق، وبشموع حمراء يرخيها العشاق على قوارب ورقية صغيرة تبحر في الماء. كنت استلقي على العشب الغض وقد صارت السماء باحة للنجوم والنيازك التي كانت تهوي في تلك الليلة بكثرة، تحدثنا كثيراً في تلك الليلة، ثم ساد الصمت وقد استلقت بنغ فال بجانبي وهي تفكر بالصحراء التي حملتُها معي ، ربما فكرّنا سويا بالصحراء كل له أسبابه، فالمكان التايواني استقر في جزء من قلبي بالأخضر الحقيقي، وبنغ فال استقرت في جزء من قلبي كصديقة حميمة رأيت تايوان من خلالها. لا أدري ، ربما أحببتها ، خصوصاً وأنا أمسح دمعة طاحت على خدها وهي تردد معي إحدى قصائدي:

    هنا الصحراءُ تَتبعني

    كظلٍّ مُتْرَف ٍ بالاتجاه

    وتعصفُ

    بيْ رمالٌ

    من صحارى القَيْظ

    رغم أني

    أحتسي

    كأس النَّضارة والاخضرار.



    *شاعر وكاتب من الأردن

    jalalghlelat@yahoo.com

    www.amkinah.yoo7.com


    رائدة زقوت
    رائدة زقوت


    عدد المساهمات : 177
    تاريخ التسجيل : 17/12/2010

    تايوان: بلاد الماء ولغة الغمام Empty رد: تايوان: بلاد الماء ولغة الغمام

    مُساهمة من طرف رائدة زقوت 25/4/2011, 12:18 pm

    تتقن الإمساك بزمام الحرف وتلابيب المكان بصياغة رائعة / تحياتي ومودتي

      الوقت/التاريخ الآن هو 12/5/2024, 8:56 am