وادٍ من سحر وسر ومعنى

وادٍ من سحر وسر ومعنى

* محمد جميل خضر
ماذا يقول النخل الخُلّبي لمن تحته: النهر؟
لجيران الدهشة المستحيلة؟
من ينادي عندما تنسى درب عودتها الجميلة؟
وكيف له أن يميل في الفضاء المستحيل؟
في الطريق إلى وادي ابن حمّاد (100 كيلو متر جنوب العاصمة عمان عند مشارف الربة والكرك ومنشيات الجنوب)، لا شيء سوى البحر، أو ما تبقى منه، ولحظة انتظار تنسحب من رفيق رحلة إلى آخر، كانوا زمرة من طلبة مبدعين، ينتظرون ليعرفوا إلى أي منطق أو لا منطق قادهم المشرفون على إبداعهم في الجامعة الأردنية، لم يكن انتظارهم من النوع الصامت الضاغط اللحوح، بل ترافق ذلك مع عزف وغناء وشعر ونكات وتفاعلات خلقتها اللحظة، وأحاطتها حدود الحافلة الصغيرة.
جاءت طريق الزارة، وظل البحر يحاذينا من جهة الغرب حيث غُرَف الذاكرة وأهل القرى المتورمة حول أريحا وما يليها وصولاً إلى القدس وبيت لحم وحتى الخليل، ما دام أن المسار ظل جنوبياً، وجنوبياً دائماً يكون.
طرق ملتوية، وأدلة ملتبسون، ونصائح متباينة في بعض الأحيان: من هنا وادي ابن حمّاد، لأ، من هناك. حتى جاء البدوي الراعي الذي هز مجمل وثوقيتنا، أشار لنا إن كان ممكناً أن نأخذه معنا في الطريق إلى وديان لا يعرفها إلا الله والراسخون في الأرض هناك، وعندما سألناه عن الوادي والسبيل إليه، استخف بنا وهو الراكب في دابتنا والمحتاج توصيلتنا، وشكك في جدية وجهتنا، واستخدم أقل الكلمات، ولم نعرف في نهاية المطاف أين الوادي على وجه التحديد!
نزل عابر السبيل، وترك معنا شكوكه بنا وحيرتنا في أمره، وواصلنا، فلا خيار آخر. وعورة الطريق، وتزايد هطول المطر، زاد من تشكيك رفاق الرحلة بجدواها: لماذا وادي ابن حمّاد؟ وفي هذا الوقت بالذات؟! ولأني صاحب الفكرة، فقد توجهت نحوي وحدي سهام الشك، وعبارات الإدانة. إلى أن جاء الوادي أخيراً.. جسر أعد على ما يبدو على عجل، بعض الأكمة والحور والقصب البري والدفلى، ورجلان تحركا نحونا بكسل مستريب: ما الذي أتى بنا في هذا اليوم المطير؟ قالا لنا دون مواربة إن المطر إن تواصل ونحن ما نزال هنا فإن ماء الوادي سيمد حتى يغطي جسر العودة الوحيد، ولن يخرجنا من هنا سوى طائرة مروحية إن استطعنا أن نعثر على سبيل للاتصال بمن يأمر بتحريكها إلينا، فالاتصالات في بطن الوادي مقطوعة، وهو ما لا يقتصر على شبكة واحدة فقط، بل على شبكات الاتصال الأرضية والخلوية المختلفة.
هذه الحقيقة أصبحت المطلب الأول للرجلين القائمين على المكان لصالح مؤسسة خاصة، بعد أن اقتنعا بأنا لسنا سياحاً، ومن غير المنطقي أن ندفع رسم الولوج إلى قلب الوادي، وأن من بيننا صحفياً واحداً على الأقل، هو أنا، فطلبوا مني إيصال رسائل مطالبهم للجهات المعنية، فالوادي جميل كما رأينا وكما أكدوا، لكنه بحاجة إلى انتباه أقطاب السياحة في البلد. زوار كبار يتوافدون بين الفينة والأخرى إلى الوادي المعتد بخصوصيته وطبيعته الخلابة المدهشة: ماء يجري وحوله الصخر ومتسلقات الشجر وعوالق الطحالب وفوقه السماء بألوانها السبع وعينها الساهرة. ويبقى النخل البري والطيور المهاجرة من أركان سحر المكان الأساسية.. بعض هذا النخل (الواشنطونيا) نما مائلاً بروعة لا تخطئها عين.
إذن، هَلّ الوادي أخيراً من كل سحر وسر ومعنى، واندهش أناس الرحلة ونسوا كل مشاقها، ومالوا نحوي ميلة الرضا وشد الأزر، جاء الوادي أخيراً حيث:
عزيز هو الماء يجري
من قصر الربة العالي
من المنشية الأبهى
فلا إثم يعاد به
ولا خوف دفينا
لا أولاد لا أحفاد
قصص تمر ولا تعود
أمل تكتبه الصبايا فوق ملاسة الصخر المحيط
بالواد البعيد
وادي ابن حمّاد
حيث عزيز هو الماء يجري
محير ونقيّ السريرة والسرائر
ماء من الياقوت
من وهج البساتين البعيدة
ومن نار الأماني في كل البيوت
قيثارات من الأوتار السابحة في النغم الجديد
لي هنا لحظتي
نعناع شايي وفكرة قهوتي
لي هنا ذاكرة شيوخ ربتوا على ظهر الوادي
أحاطوه بالأمن
وجعلوا منه هجعة فرس من نبت الأصايل
لا يئن ولا يزن ولا يكثر الشكوى.
على الطريق الملوكية القديمة، وعلى بعد 30 كيلوا متراً من غرب الكرك وشمالها، يرتاح الوادي المفعم بالسحر وجمال الطبيعة الأخاذة، ينتظر هواة المغامرة، وعشاق السفر بمكامن المكان وتجلياته واختلافه عن سواه.
ثائر عياش، مدير مركز الاستكشاف والمغامرة الأردني، يقول في وصف الوادي: "ما إن تنساب قدماك عبر دفء مياه وادي ابن حماد، حتى تدرك أن الحياة فيه مكتملة بعناصرها الأربعة (الماء والتراب والريح والنار)، فالماء ينساب تحت قدميك دافئاً ويجعل روحك ترتشف نشوة محبة الأرض التي تنساب عليها.. وتراب يهجر الصخور الصلبة ويرتحل إلى جنبات ضفاف مجرى الماء ليشكل ضفة صغيرة على أطرافه ويستقبل زواره المارين به محطة لاستراحتهم، ونسمات ريح تعبر الممر الصخري تعطي المار من بين جنباته برهة من الانتعاش.. تخفق الروح بنسمتها المعطرة من عبق الزهور المتدلية من بين شقوقه، فيما لهيب يتصاعد في الأفق لشمس تطل بين الفينة والأخرى.. تلسع جباه المارين بها من حرارة اللقاء".