أمكنة

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
أمكنة

مجلة ثقافية تُعنى بأدبيات المكان


2 مشترك

    في بيت غالب هلسا

    أمكنة
    أمكنة
    Admin


    عدد المساهمات : 285
    تاريخ التسجيل : 16/12/2010

    في بيت غالب هلسا Empty في بيت غالب هلسا

    مُساهمة من طرف أمكنة 2/4/2011, 2:12 pm

    في بيت غالب هلسا
    [img]https://amkinah.yoo7.com/في بيت غالب هلسا Uus_ou11[/img]


    * جلال برجس
    في مقدمته الشهيرة التي جاءت كإضافة مهمة لكتاب (غاستون باشلار - جماليات المكان) تحدث غالب هلسا عن ذلك الأدب الذي حينما نقرأه نحس بأنه يعنينا وحدنا ، وذلك عائد - حسب وجهة نظر هلسا - إلى كونه أدبا عالميا رغم خصوصية المكان والزمان ووعي الشخوص ونوعية الحكاية ، أي أن القارئ الذي لم ير المكان - أيّ مكان - ولم يعايش زمنه وتفاصيله المتنوعة ، يمكن له أن يجد صدى ذاته في ذلك العمل الذي يكتسب في هذه الحالة صفة العالمية بامتياز. وعندما قرأت أعمال غالب هلسا الروائية مرات ومرات ، أعجبت ودُهشت لشدة انتباهه للمكان عبر تقنياته التي رأيتها سابقة لذلك العصر الذي كُتبت فيه ، فقد كان يستلهم المكان بروح إنسانية بحتة ، ليس من منظور تصويري جامد ، إنما عبر روح شعرية فذة أعطت المكان حقه وأعطته أيضا عالمية لا يمكن تجاهلها ، بحيث صار المكان في نصه الروائي موضع إسقاط وتقاطع لكل الأمكنة في العالم من قًبل المتلقي ، بغض النظر عن جنسيته ومكانه وزمانه وثقافته ، لذا رأيت غالب هلسا غير منسلخ عن ثقافته ، بل ملتزم بوعيه الثقافي أشد التزام ، وهو صاحب الفهم الإنساني لكل ما يجري حوله ثقافياً وسياسياً واجتماعياً. كان الكون عالمه بعيداً عن الانغلاق وكان صاحب نفَس إنساني دون حدود ، فقد قادتني دهشتي التي تشكلت جراء الفهم المتفرد عنده للمكان والمكانية في عالم الرواية ، إلى تتبع الأمكنة الأردنية - خصوصاً مسقط رأسه - التي كانت أحد أهم عناصر بناء أعمال غالب هلسا الروائية ، سواء برزت بشكل مباشر أو غير مباشر في عوالم النص . فأنا وغالب هلسا تربينا في بيئة واحدة تقريباً - بيئة ريفية بدوية - مع الأخذ بعين الاعتبار الفارق الزمني الشاسع بين جيله وجيلي ، ومع الانتباه أيضاً للتطور وعوامل التقادم التي طرأت على تلك الأمكنة التي استلهمها في رواياته ، لكن هنالك عناصرا في روح المكان لا يمكن أن تتلاشى رغم عوامل التطور والتقادم وهي عناصر محسوسة لا ملموسة ولا مرئية. مسقط الرأس ومخبأ الأحلام فـ"ماعين" تلك القرية التي تقع جنوب عمان وفي الجنوب الغربي لمدينة مادبا ، تتيح لك وأنت تقف على أحد جبال السهوب الشرقية امتداداً من ماعين مرورا بمادبا المدينة ، وقراها وصولاً إلى الجيزة وزيزيا ، وترى غرباً الغور الأردني والبحر وفلسطين ومآذن القدس في حالات جوية معينة ، خصوصاً في صحو الطقس وصفائه ، إلى الشمال حيث جبال السلط وعجلون ، وجنوباً وادي الموجب وجبال الكرك. ماعين هي مسقط رأسه ، ومخبأ أحلامه ، وهمسات باله ، وعشه الأول الدافئ الذي ظل يحن له طيلة حلًّه وترحاله. فما كانت ترجمته لكتاب باشلار (جماليات المكان) سوى تطابق رؤى باشلار مع رؤى غالب نفسه إلى جانب ذلك الحنين الجارف للبيت الأول والعش الأول وعلاقة الإنسان بالمكان. فمنذ أن وطأت قدماي قرية ماعين تعربشتْ بأكتاف روحي روح غالب هلسا وراحت تضج في بالي تلك الأوقات التي كان يسير فيها من مادبا المدينة الى ماعين القرية ، عبر تلك المساقة التي تؤثثها أرض بتربة حمراء حفلت بحقول القمح والشعير والكرسنة والعدس ، ذلك المسير الذي كان غالب قد حمّله أكثر من شخصية في أعماله الروائية والقصصية. وبينما كنت أهم بدخول بيته (الذي ننتظر تحويله إلى دارة ثقافية تحمل اسمه) استشاط في دمي الحنين وكأني في تلك اللحظة رأيت غالبا يقف على باب الدار يرحب بي ، ثم قفز إلى مخيلتي أجمل مشهد سردي وهو يصف المكان ومجموعة من الأشخاص يجلسون في غرفة يسّاقط على أجسادهم خيط من الضوء بارتعاش ، ذلك المشهد الأكثر أهمية في قصته الشهيرة (البَشعَة) ، إذ تمازج في بالي وهج المكان الحقيقي بوهج المكان الذي صوّره غالب في تلك القصة بحيث بانت البراعة الأكثر من تصويرية والتي مردها الانتماء الحقيقي للمكان وأهميته عند أديب بحجم غالب هلسا الذي كان في منافيه الكثيرة يحمل مكانه الأول في جعبة روحه ، فيبان في رواياته حتى وهو يسرد حكايته عبر بيئة ومكان مصريين مثلما فعل في روايته (الخماسين) وفي بيئة ومكان عراقيين مثل (ثلاثة وجوه لبغداد) ، اذ أن مكانه الأول قد لاح ساطعاً في سماء النص كما لو أنه يلح على وعيه الروائي ، ما أعطى لمجمل أعماله طابعاً إنسانيا مُزنراً بجماليات خاصة. فالبيت وَحوْشًه ونوافذه وعالمه الداخلي بكل أسراره وأحلام اليقظة التي مورست فيه ، كانت عشب البال عند غالب هلسا وكانت ماء بوحه الروائي وهو ينزع للاستقرار ، فكلما غاب في المدينة وعوالمها يعود غالب في عالمه الواقعي وفي عالمه الروائي إلى ماعين ، يصعد الطريق المتعرجة وصولاً الى البيت الذي يممه عبر درجات إلى الحوش ثم إلى غرفتين للمعيشة الى جانب غرف أخرى للخزين وللماشية ، فعبر رواياته وعوالمها وروح المكان كان غالب حاضراً فيها هناك ، كنت أراه ولا أراه ، اسمعه ولا أسمعه ، فكنت أصرخ في دواخلي من فرط الحنين والدهشة (كم كنت وفيا لمكانك ولدواخلك يا غالب) إذ كانت الروايات والقصص تتتابع في مخيلتي وتلقي بوهجها في شرفات البال: زنوج وبدو وفلاحون ، البًشعة ، السؤال ، الروائيون ، سلطانة ، الخماسين ، ثلاثة وجوه لبغداد ، وكأنها صارت مزيجاً واحداً يشكل عبر تلك الجزئيات التي تطرّق فيها للمكان عبر لغته المتفردة. وتكاد روايته الشهيرة (سلطانة) تحفل بأعلى مستويات البوح الروائي فيما يخص المكان وعلاقته بالإنسان ، أو لنقل أن المكان كان الشاهد الأول على بوحه وأحلامه التي مارسها كما ينبغي ، فعندما سرتُ في دروب ماعين كانت (سلطانة) بأحداثها تسير معي في أزقة القرية وطرقاتها لأرى الشخوص - الذين تلبستهم في الرواية شخصية غالب المؤلف وشخصية غالب السارد وشخصية غالب الحالم - يضيئون لي وهج التطابق بين المكان في نصه الروائي وبين المكان في حقيقته الواقعية. دهشة الواقع والمتخيل في ماعين ، وأنا أعاين روح الأمكنة التي نقل غالب هلسا أصداءها إلى بُنى رواياته ، كان غالب يسير معي جنباً إلى جنب بنبرته الحزينة - التي شكلتها مخيلتي عبر قراءته - ويؤشر لي على حالات المكان الذي احتضن عالماً بأكمله هو عالم غالب هلسا ، إذ أنني لم استغرب من جمالية حضور المكان بذلك الشكل الملفت للذائقة الأدبية والبصرية ، خصوصاً بعدما تأكدت من وفائه لمكانه ، فغالب كان في أعماله الروائية سارداً ومخرجاً سينمائياً وممثلا بارعاً صاحب رؤيا تغلغلت في المكان وتجاوزته إلى أفق أكثر رحابة ، حيث بقي عبر تجوالي في أتون عالمه الروائي وفي مكانه يثير بي الدهشة وهو يصور المكان بعينْ ويخلق له أجنحة. كان غالب يسير معي وهو يذكرني بالوقوف على الجبل الذي يطل على البحر الميت وعلى الأفق الذي تلوح عبره فلسطين ، يذكرني بالسهوب الشرقية لمادبا التي لطالما تهاطلت من سماءها النيازك والشهب في ليالي الوحشة في عالمه الواقعي وعالمه الروائي ، والتي لطالما شهدت بانوراما بيوت الشعر وعوالم البدو وحكايات الثارات والجوع والحب والفرح والقصائد التي حفظها غالب عن ظهر قلب ، فجلست أمام البيت ، بيته ، أشعلت سيجارة ، وارتشفت من فنجان الحنين ورحت أشاهد قصته (البشعة) من جديد بعدما قرأتها وغالب يحوم في حوش الدار يدلني: هناك كانت القبلة الأولى ، هناك كان التلصص الأول على امرأة تستحم بماء الشمس ، هناك قتل فلانّ فلانا ، هناك كانت الخطيئة الأولى في ارتكاب الكتابة ، هنا كان السؤال الأول والإجابة منفى إثر منفى. كانت روحه الروائية التي لم تنفصل عن روحه الإنسانية دليلي إلى أمكنته ، وأمكنته دليلي إلى روحه ، فأن نتتبع الامكنة التي أثثت روايات عظيمة مثل روايات غالب هلسا ، فهذا فعلّ له أن يثير دهشة الواقع الى جانب دهشة المتخيل ، بحيث يتسنى لنا أن نتلمس بعض ملامح مزاجه الروائي ، فقد مشيت في طرقات ماعين وأزقتها وإطلالاتها على الغور الأردني وعلى فلسطين وعلى البحر الميت ، كنت أسمع همس الحكايات التي مازالت سادرة في أعماله الروائية ، وكنت أكاد أتحسس تأملاته على الإطلالات التي كان يعشقها غالب ، تأملاته التي أنتجت أعظم الروايات والقصص وأكثر الكتب النقدية والترجمات أهمية. ساعات في بيت غالب هلسا ، في أزقة ماعين وشوارعها ، على الإطلالات وبين الكروم ، نفشت عهن الروح فسَالَ القصيدُ:
    على باب البيت بيت غالب وأنا أهم بالدخول
    ذرفتُ دمعة وأشعتُ الشهيق ،
    على باب البيت ، بيت غالب وأنا أهم بالخروج ،
    ذرفتُ دمعتين وأشعتُ النحيب ،
    على باب البيت ، بيت غالب ،
    أعطى المدى للغيم برقاً شق صدر الأرض وهو يحكي: سلام على الأبدية ، سلام على الراوي ،
    سلام على وترْ أثيري الكناية سلام على بُعدْ قريب.
    * شاعر وكاتب أردني
    jalalghlelat@yahoo.com
    د.سهام المرتضى
    د.سهام المرتضى


    عدد المساهمات : 3
    تاريخ التسجيل : 10/08/2011

    في بيت غالب هلسا Empty رد: في بيت غالب هلسا

    مُساهمة من طرف د.سهام المرتضى 11/8/2011, 2:25 am

    أستاذ جلال، نصّك استثنائي بحق استثنائي، منذ أن بدأت القراءة لك وأنا أجد المتعة فيما تكتبه، بصدق أنت أجمل من كتب في المكان.

    تحياتي لك
    أمكنة
    أمكنة
    Admin


    عدد المساهمات : 285
    تاريخ التسجيل : 16/12/2010

    في بيت غالب هلسا Empty رد: في بيت غالب هلسا

    مُساهمة من طرف أمكنة 24/8/2011, 3:14 am

    شكراً دكتورة وشكراً لوجودك معنا هنا

      الوقت/التاريخ الآن هو 13/5/2024, 5:13 am