أمكنة

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
أمكنة

مجلة ثقافية تُعنى بأدبيات المكان


    المتحف .. المتخيل والمحمول

    أمكنة
    أمكنة
    Admin


    عدد المساهمات : 285
    تاريخ التسجيل : 16/12/2010

    المتحف .. المتخيل والمحمول Empty المتحف .. المتخيل والمحمول

    مُساهمة من طرف أمكنة 2/4/2011, 4:15 am




    المتحف .. المتخيل والمحمول
    المتحف .. المتخيل والمحمول Images?q=tbn:ANd9GcRyq3nCENfXrpvveBiyoUH8ezC5EI3RS64SgDqF6c3pHWu6ctPGkQ



    يوسف يوسف



    بين تلك التحية المخجلة كوني ألقيتها على تمثال لم أكن قد اكتشفت حقيقته كنتاج بشري صامت لا يقدر على رد التحية بمثلها على الأقل، وبين ما أصبحت أدركه لاحقا عن المتاحف في أنواعها المتباينة الاختصاص بعد زيارات عديدة وقراءات واسعة على امتداد أربعة عقود أعقبت الزيارة الاولى تلك التي ألقيت فيها التحية سابقة الذكر على تمثال جامد، بقيت أفكر طويلا بالكيفية التي انخدعت فيها، فجعلتني أعتقد أن من سألقى التحية عليه في المتحف الروماني في جبل القلعة في عاصمة الأردن عمان العام 1969 وكنا حديثي عهد بالمدينة التي تستلقي فوق سبعة جبال ، إنما هو أحد حراس المتحف الذين يتناوبون الوقوف عند الباب من الداخل في ملابس شيشانية جميلة، لاستقبال القادمين من الزوار، وتشييع أولئك الذين يكونون قد أمضوا وقتا ممتعا بين محتويات ردهات المتحف الذي يؤرخ لعمان في حقبتها الرومانية.

    ويعرف القراء وبالذات منهم أولئك الذين يعشقون زيارة المتاحف ويحرصون إذا ما حلوا زوارا في عاصمة ما، أو في مدينة كبيرة لها تاريخ محترم، أن تكون زياراتهم للمتاحف من بين اولى الزيارات التي يقومون بها لاكتشاف المدن التي يذهبون إليها. فالمتحف.. أي متحف.. وبصرف النظر عن مكانه، ونوعه، وجنسيته، إنما هو مجموعة من الصفحات، التي تحتاج قراءتها للكثير من الجهد، وليس لمجرد النظرة العابرة التي تكتفي برؤية حجر صغير، حاد الأطراف، تقول المعلومة التي كتبت بجانبه أنه مما كان الإنسان يستخدمه في الصيد إبان زمن بعيد تحدده المعلومة إياها. وسوى هذا فإن مثل هذه القراءة، عليها البحث عن الأسباب التي تجعلنا نحتفظ في متاحفنا حتى اليوم بثياب الإنسان القديم وأدواته التي كان يستخدمها في الزراعة والصيد. وهي الحالة التي لفتت انتباه غيورغي غاتشف مثلما تلفت انتباهنا نحن الآخرون، فجعلته يقول في تحديد الإجابة: إنه البحث عن ذواتنا، وعن مظاهر عمل الإنسان ودرجة وعيه وتدرج هذا الوعي ذي العلاقة بالمشكلة الجمالية.

    هنا يبدأ حديث تحديد المتخيل، ومثله حديث تحديد المحمول في أشياء نراها في المتاحف كل واحد منها على انفراد. ففي المتحف التراثي مثلا، فإننا بحاجة للبحث عما تحمله إلينا صفحات المقهى الشعبية، أوالقصخون (الحكواتي)، أو حمام النساء، او لعبة (المحيبس) الشهيرة عند العراقيين في ليالي رمضان. وفي المتحف الآثاري الذي في بابل مثلا، فإننا بحاجة للبحث عما تحمله إلينا صفحات: العملة البابلية.. تماثيل الآلهة المختلفة الأحجام.. القلنسوة البابلية.. مسلة حمورابي، وهكذا الأمر في بقية المتاحف مما يمكن أن نقرأ فيها الكثير عن وعي الإنسان وتطوره، ومعنى ذلك وجوب الانتباه إلى مسألة مهمة يمكن تلخيصها على النحو التالي: إن علو مكانة هذا المتحف أو ذاك من المتاحف، إنما تتحدد على وفق قدرته على إثارة الخيال، وعلى وفق ما يقدمه من المحمول الذي يتناثر فوق المناضد أو في الخزانات المزججة وفوق الرفوف، دون أن ننسى أن الإنسان مرويات. وهكذا هو تاريخ وعيه وتطوره. وقد نرى المروي في حجر، أو في سهم قديم أو في رمح، أو في رقعة من الجلد عليها كتابة هيروغليفية، وهكذا إلى ذلك مما نرى في المتاحف التي ليست مجرد أمكنة، في مقدورنا المرور بها مرورا عابرا. فالمحمول الذي فيها هو ما يشحذ العقول. وهو ما يدفعنا لرؤية الحجر القديم من زوايا متعددة: وظيفة الحجر الحياتية. قيمته كوسيلة للقذف عبر التاريخ. بدايات تعامل الإنسان مع الحجر. وهو البحث الذي جعل غاتشف يقول في كتابه «الوعي والفن»: لم يعد جوهر ذلك الحجر المقذوف كامنا في خواصه الطبيعية كالثقل والحجم والشكل، بل في وظيفته الاجتماعية.

    وعلى هذا المنوال أيضا، فإن رؤية تمثال للإلهة عناة التي اشتهرت عند الكنعانيين القدماء، ستحمل الزائر - قارئ التمثال إلى حالة عناة في الديانة الكنعانية: إلهة الخصب.. وإلهة الحرب والدمار والكوارث القوية الجبارة المتسلطة، والإلهة الرقيقة الحنونة، التي يمكن اعتبارها بحسب فراس السواح: المدخل النموذجي للكشف عن سايكولوجية المرأة.

    عندما نقول إن الأسطورة نوع من الحلم الجماعي، فإننا نكون قد أصبنا كبد الحقيقة. ومثل ذلك أيضا فإننا حينما نقول بعد رؤية تجهيزات منزلية من السكاكين والأطباق والفخاريات والأصداف وحجر الصوان البركاني في متحف في مدينة القدس، بأن هذه التي نراها إنما تدل على أنها قد جلبت من أمكنة بعيدة، وأن القدس المدينة الكنعانية القديمة التي وجدت هذه الأشياء فيها، كانت على علاقة قوية مع غيرها من المدن، نكون قد اصبنا كبد الحقيقة كذلك.

    إن رؤية تمثال لعضو الرجل التناسلي في متحف ما، إنما يجب أن تذهب بصاحبها باتجاه البحث في عقيدة الخصب مثلا عند من تركوا التمثال وراءهم ورحلوا، ومعرفة أسرارها وما فيها من المعتقدات. وكما أن رؤية تمثال لإله قديم ذكر، ولإلهة قديمة أنثى، توضح للمتلقي اهتمام هذه الديانة أو تلك من الديانات الوضعية القديمة التي ظهرت في مراحل سابقة من التاريخ البشري بالعائلة، فإنه يندر أن نرى في أساطير كنعان والأساطير الرافيدينية مثلا، إلها بدون إلاهة تقف إلى جانبه وتعيش معه. كما يندر أن نرى هذا الاله بدون ابن وسلالة نراها جميعها في المتاحف التي تهتم بهذا الجانب من المكتشفات الآثارية. وهذا هو التخييل الذي نقصده، وهو بما يمتلكه من القدرة التي هي قدرة هذا الزائر أو ذاك، سيوضح جوانب المحمول جميعها التي تستقر في الأعماق البعيدة للآثار الصامتة التي علينا استنطاقها، كما حاولت عبر السنوات الطويلة الماضية استنطاق ذلك التمثال الذي ألقيت عليه التحية قبل أربعين سنة، ومثلما أحاول استنطاق المسحراتي في متحف شعبي، لنحكي معا حكايات زمن مضى ولن يعود. ولنرى معا صورنا التي كلحت ألوانها، ولنرى أشكالنا التي ما عدنا نتذكرها في زحمة الشوارع التي أزهقت المتاحف والأرواح التي تسكن فيها، فلم نعد نكترث بها، لأننا لم نعد نكترث حتى بأنفسنا على وفق ما يحتمه المنهج العلمي لفهم الذات والواقع. ومعنى هذا فإنه علينا التخلص من الصدأ الذي يفصلنا عن مرايانا التي نرى فيها حقائقنا، خشية ان تفلت ولا نعود نعرف أولنا من آخرنا.

      الوقت/التاريخ الآن هو 13/5/2024, 1:23 pm