أمكنة

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
أمكنة

مجلة ثقافية تُعنى بأدبيات المكان


    أحنيت كتفيّ ليتكئ عليهما

    أمكنة
    أمكنة
    Admin


    عدد المساهمات : 285
    تاريخ التسجيل : 16/12/2010

    أحنيت كتفيّ ليتكئ عليهما  Empty أحنيت كتفيّ ليتكئ عليهما

    مُساهمة من طرف أمكنة 2/4/2011, 3:53 am

    أحنيت كتفيّ ليتكئ عليهما  MusaHawamdih





    أحنيت كتفيّ ليتكئ عليهما * موسى حوامدة




    الآن، وقد مضى على موتك، ما يزيد على ثماني سنوات، ما زلت كأنني أسمع نعيك للتو، أعيش موتك الأبدي كأنه المناسبة الأهم والأنسب في حياتي، لا بل قل: كأن الزمن توقف هنا، وتجمّع الماضي والحاضر والغد، في لحظة درامية واحدة، فصارت لحظة موتك اللحظة التي تتجمع عندها كل خيوط الزمن، وصرت لا أرى غيرها، ولا أعيش سواها، أحياها، أعيد إحياءها، أعيد ترتيب الماضي كأنه كان يتهيأ، يتناسل، ويمضي، ويتشكل من أجل هذه اللحظة بعينها، وأرنو إلى الغد بطيئاً، أو مستعجلاً كأنه يريد العودة إلى الوقوف بين يدي هذه اللحظة بالذات، والتمركز داخلها وخارجها، من أجل أن يتأملها ويعيشها، ويمضي بعيداً وقريباً، ليرتد إليها ويتكسر عند حوافها، ويتماهى بها ويصيرها.

    حكمك، يا أبي، وحكمتك، طيشك، يا أبي، وجنونك، علتك، يا أبي، وصحتك، غنى نفسك وفقرك، عزتك وخوفك، قوتك وضعفك، جمالك وشدتك، بأسك ورحمتك، كل عيوبك وحسناتك، تتراكض ـ الآن ـ بين يدي، وأمام ناظري، تتخلق من جديد، تتنامى وتحيا كأنها تولد للتو والحين. ولأنني لا أستطيع العودة إلى الزمن الماضي، لأجدك هناك، سأحضر الماضي، ليعيش معي في هذه اللحظات. انظرْ إلي، يا أبي، تجدني أعيش الحاضر كأنني واقف تحت نفس الصخرة، لا أتحرك من تحتها، ولا تتزحزح خواطري بعيداً عنها، ولا تسعى إلى التمرد عليها، أو الوقوف حتى خارج ظلها وفيئها ودائرتها، وكأن الحرية التي ملكتُها ـ بعيداً عنك ـ صارت تحبب عبوديتي تحت سماء ذكراك، وفي أزقة سيرتك، وفي كهف ماضيك وماضيَّ، وتمتعني بالعيش معك، بل العيش من جديد.

    ولا تظن أني أبالغ حين أقول لك: إنني أعيش بك ولك ومعك، اليوم، حتى بعد موتك المادي، فلا تنحصر العلاقات في أجساد تتمايل، ووجوه تبتسم، وأصوات تتطاير، وأيد تتصافح، ولا تتوقف العلاقات بين كائنات من لحم ودم، وليست الحياة واقعاً يعاش آنياً، بل روحا تسكن الدهر والعمر والزمان، ورائحة تغمر فيوض البدن والعقل، وتمتد في المرئي والمعقول والممكن وحتى غير الممكن والمعقول.

    وهكذا تجدني أعيش حياتك السابقة، حياتي، حياتنا السابقة، أو قل تلك العلاقة الغامضة، بين أب كأنه قدَّ من حجر، وابن خلق من معصية.

    أمضي في تلك الحياة، أمشي فوق طرقاتها المغبرة، وحاراتها القديمة، وقصصها المتجددة، أشرب من حكمتك، وأبوتك، ومائك العذب، وأتدفأ بنار لهفتك، ورقتك، وهشاشتك التي عشتَ عمرك تخفيها، وتمارس عليَّ خديعة إظهار القوة والبأس، بينا جوانحك تضطرب، قلبك يخفق، بل يخفق بلا هوادة ولا رحمة، وقد سبرتُ غورك، ولمحت ضعفك، بعيني ذئب مطرود، كانت عيناك تفضحانك، ويداك تشاركان في كشف سرك، حين تظهران تلك الارتعاشة الخفية، وأنت تحاول التمثل والتظاهر، وإخفاء داخلك، وإظهار قشرتك الصلبة، وتغطية داخلك الرجراج اللين المدهش.

    أعلمْ علم اليقين، أيّها الحي الميت، الميت الحي، أقصد، أنني صرت ـ لفرط تعلقي بهذه اللحظة، أعني: لحظة رحيلك، وموتك ـ متعلقا بكل لحظة تشبهها، فكلما سمعت نبأً أو نعياً، تخيلتك، وكلما شاهدت رجلاً كبيراً، أحنيت كتفيّ ليتكئ عليهما، ومددت يدي ليأخذ بها، وصرت لفرط تعلقي بك، أحترم الكبار لتشبههم بك، وأضعف أمام الأبناء، فقد يكون لهم آباء يشبهونك، وأحنو على الأطفال، لأن لهم أجداداً مثلك، وأشفق على كل إنسان، فربما يملك بعض صفاتك.


      الوقت/التاريخ الآن هو 12/5/2024, 9:17 am