أمكنة

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
أمكنة

مجلة ثقافية تُعنى بأدبيات المكان


    جدلية الإنسان – المكان – الزمان

    رائدة زقوت
    رائدة زقوت


    عدد المساهمات : 177
    تاريخ التسجيل : 17/12/2010

    جدلية  الإنسان – المكان – الزمان Empty جدلية الإنسان – المكان – الزمان

    مُساهمة من طرف رائدة زقوت 25/3/2011, 11:30 am

    جدلية


    الإنسان – المكانالزمان








    ليس للإنسان في دنياه الفانية إلا المكان والزمان الذي يعيشه ، ومنذ الأزل وهو يجهد نفسه في استيعاب المكان وإدراكه و فهم الزمن و مجرياته . وأثمرت جهوده هذه العلوم جميعا . فالبعض قد ركز على الطبيعة و مكوناتها ، والآخر انصب اهتمامه على الإنسان و نشاطاته ،
    و منهم من حاول سبر أغوار الإنسان لفهم كنهه ، والبعض حلق في أجواء فكرية تنئى عن المكان والزمان قصد فهمهما . وفي جميع هذه كان الإنسان و خدمته هو الهدف المعلن وغير المعلن (فرادا و مجموعات) . فدراسة المكان هدفها الإنسان لأنه يعيش فيه وينشط ، ودراسة الزمن لأنه من نتائج حركة الإنسان والمادة ( الطبيعة والكون) وتفاعلهما مع بعض . في هذا المقال ، نسلط الضوء على العلاقة الجدلية بين الإنسان و المكان والزمان وما تفتق عنه فكر بعض الرجال الذين شغلتهم هذه الجدلية ردحا من الزمن ، ومن أماكن مختلفة من الكرة الأرضية . وسأبتعد قدر الإمكان عن كتابات الجغرافيين كي أوضح أن المكان ليس حكرا لهم ، بل انه موضوع اهتم به الجميع كل ضمن تخصصه واهتماماته .



    الإنسان و المكان


    يشير الأستاذ محمد علي المحمود في مقال له عن جدلية الإنسان والمكان إلى أن عنصر المكان " لا يقتصر على الجغرافيا ، وإنما يشمل الواقعة الاجتماعية ككل " وبهذا فله " أهمية كبرى في سياق تحليل الظواهر الإنسانية ، ذات الطابع العام" . وان عنصر المكان "مشدود إلى حقول معرفية لا حصر لها ، حتى وإن كانت هذه الحقول – من حيث المرجعية التخصصية – تتمحور حول تخصصين اثنين ، يشكلان الدعامة الأساسية لها ، وهما علم النفس الاجتماعي ، وعلم اجتماع المعرفة ." وحسب رأيه فانه من عالم " هذين التخصصين ، تستمد معظم الرؤى التحليلية – واعية وغير واعية – آلياتها في مقاربة جدلية الإنسان والمكان" . فعلماء الاجتماع يركزون على دور المجتمع (مجموعة من الناس تربطهم روابط و يعيشون في مكان محدد) وفي زمن محدد . مما يعني أن العلوم الاجتماعية على وجه الخصوص تتباهى في تخصصها بالمكان وتعده ملكا لها ، وبهذا لم تعد الجغرافيا بدون منافسين كما يعتقد البعض ويجهل ذلك الكثير .

    وركز عمر منيب إدلبي على تبادلية التأثير بين الإنسان والمكان ، " إذ يسهم المكان في تشكيل وعي الإنسان بوجوده ، ويطبع فكره و هويته – وقبل ذلك كله فيزيولوجيته – بطابعه ، فيما يسهم الإنسان في إضفاء خصائص إنسانيته على المكان بتبدل صفاته وبنيته ، وأنسنة فضائه ، وهذه العلاقة التأثيرية المتبادلة تتحول بفعل التعود على مر الزمن إلى علاقة حميمة ، يترك هدمها او قمعها آثارا كارثية على الطرفين " . وما معاناة المهجرين العراقيين إلا أمثلة منوعة و أدلة دامغة على الارتباط بالمكان .
    فشخصية المكان يرسمها الإنسان ، و خصائص الإنسان و سماته تتحدد بنسب متباينة بالمكان . ولا يعني هذا الاعتقاد بالحتم الطبيعي (الجغرافي) ، بل إن التأثير موجود (سلبا وإيجابا) ولكنه ليس العامل الوحيد و الحتمي ، انه يتفاعل مع عوامل أخرى ذاتية وموضوعية في جدلية صارخة أحيانا و هامسة أحيانا كثيرة . فشخصية الموصلي غير شخصية البصري ، والبغدادي غير ابن العمارة . وفي الوقت نفسه فان شخصية الأبناء في البيت الواحد مختلفة (ومتناقضة أحيانا) . فعند الحديث عن التأثير يقصد به الأكثر احتمالا (المنوال في المصطلح الإحصائي) . ولهذا السبب يقول الإدلبي " ولما كان للمكان حضوره المؤسس والبناء لعلاقات المجتمع بفعل تفاعل الإنسان مع محيطه الجغرافي و أشيائه ، فان للإنسان بالمقابل دوره في تشكيل القيم الخاصة بهذا المكان عبر مجموعة العلاقات والسلوكيات الإنسانية التي تصبح فيما بعد رموزا دلالية تشكل في مجموعها صفات مكان ما " . وللتوضيح نشير إلى أمثلة عن تباين القيم الخاصة بين سكان منطقة الفضل و المنصور مثلا ، وسكان الكرادة و الكريعات في بغداد . وقد رسمها المعنيون بالقيم الاجتماعية و تمحورها مكانيا كجزر حضارية (البعض يسميها ثقافات فرعية) ضمن الحضارة الأم (البغدادية هنا) .
    وتقود نشاطات المجتمع قيمه ، العليا منها على وجه الخصوص ، و تتجسد واقعيا بالتراتبية الاجتماعية التي تصنع المكان والمكانة (محمد علي المحمود) . والدليل على ذلك تاريخيا يعود إلى دويلات المدن حيث التوزيع الاجتماعي – المكاني لسكانها ، ومدرسة شيكاغو للبيئة الاجتماعية التي قدمت الأدلة الإحصائية على التراتب الاجتماعي – الاقتصادي – المكاني لسكان المدن الكبيرة . فالإنسان ينظم مكانه ليبرز خصائصه الذاتية والاجتماعية بصيغ مكانية .
    ويشير الأب روبير الكرملي إلى " إن الدراسة الفلسفية للطبيعة ليست فقط دراسة موضوع مستقل عن الإنسان ، وإنما دراسة العلاقات أو الحوار بين الإنسان والطبيعة التي هي من حوله ، ومن خلال هذا الحوار تكتمل الطبيعة بمعرفة الإنسان لها ، وان الإنسان يكتمل بمعرفته للطبيعة ، فهناك تعامل جدلي بينهما" . فالفلسفة التي عنت بالطبيعة اقتنعت بأن الطبيعة لا تكتمل إلا بمعرفة الإنسان لها ، ولا تكتمل شخصية الإنسان و إنسانيته إلا بمعرفة الطبيعة ، فهما وجهان لعملة واحدة اسمها الحياة على سطح الأرض .
    كان هذا على المستوى الاجتماعي والفلسفي ، أما على المستوى الفردي (الشخصي) فنجد كتاب السير الذاتية يركزون على المكان وأثره على شخصية المبحوث و أفكاره ونتاجه الأدبي أو العلمي . وفي الأدب فان "الفضاء الجغرافي" والإشارة إليه له أهميته في تشكيل الصورة في ذهن و مخيلة المتلقي للتعرف على خصائص الأمكنة وصفاتها . وعودة إلى عمر منيب الذي يؤكد أن عنصر المكان " لا يمكن النظر إليه من منطلق عزلة عن بقية العناصر السردية الأخرى (الزمن ، الشخصية ، ...) ، ولاسيما عنصر الزمن ، إذ (يستحيل وجود مكان ارضي ، أو غير ارضي لا يتضمن كمية من الزمن وجدت بوجوده واستمرت باستمراره) , كما أن المكان (لا تتجلى ابرز صفاته الجمالية إلا من خلال الزمان والإنسان)" . فعملية الفصل بين الإنسان والمكان والزمان اعتباطية وليست حقيقية .
    ويعترف محمد شكري بدور المكان في حياته حيث يقول " لي ارتباط كبير جدا بالمكان ، أنا أقدر ما يسمى بجمالية المكان في القصة أو الرواية على الرغم من أنه مذهب كلاسيكي واقعي ولكني مرتبط جدا بالأماكن ، وأحيانا لا أعرف كيف أكتب حتى أكون جالسا في مكان معين " . فعلى الرغم من عدم اعتناقه المذهب الكلاسيكي إلا انه يقر أهمية المكان له و في كتاباته . أما إدوارد سعيد فقد خرج من المكان ليناور " في أفق البلاغة والفلسفة والسياسة والتاريخ في آن معا ، فهو لا يغادر المكان على مستوى الواقعة ، جغرافيا ، إلا من أجل أن يعود إليه رمزيا ليحتويه ويعلن انتماءه إليه ، وعدم تخليه عنه ، والإمساك به حتى الرمق الأخير" . فالمكان محفور في وعي الإنسان و اللاوعي ، موجود علنا وضمنا في تفكيره وسلوكه .
    وعند مراجعة العنوانات الأدبية و الفنية نجد للمكان حضور يلفت النظر ، فعلى سبيل المثال لا الحصر ، المكان في قصص وليد إخلاص ، خارج المكان ، أنا والمكان ، البئر الأول ، فلسفة المكان في الشعر العربي ، فاعلية المكان في بناء القصيدة عند ذي الرمة . وعلى مستوى المسلسلات التلفازية نجد : بنت الحتة ، بين القصرين ، قصر الشوق ، باب الحارة ، أين مكاني والعديد غيرها .

    ألمكان والزمان

    لقد شغل موضوعي المكان والزمان الفلاسفة من القديم ، وهم متفقون على إنهما من أشكال المادة ، ولكنهم منشغلون في جدل مفاده : هل هما حقيقيين أم إنهما تجريدان لا يوجدان إلا في وعي الإنسان ؟ ويرى البعض أنه بمجرد الادعاء بوجود الشيء (جسم) نكون قد حددنا مكانا معينا له ، ولهذا فان المكان هو ما يتعلق بالاين ، وبالتالي يحدد خاصية معينة لشيء معين كالمادة . ولهذا يخلص عبد الغفور بالريسول إلى القول " فالمكان ليس جسما ، بل هو الشرط الأساسي لكيان الجسم ، إذ لا يمكننا أن نتصور جسما ما إذا لم تنطبق عليه شروط مكانية (حجم ، طول ، ارتفاع ...) ومن ثمة نستطيع انطلاقا من دراسة حالة الجسم أن نفهم أو نستنبط الكثير عن المكان
    وجاء اينشتين بالنظرية النسبية لتربط المكان بالزمان وتظهر مفاهيم تتجاوز الاستيعاب الإدراكي الحسي لتظهر الحقيقة في معادلات رياضية جد مجردة و معقدة . فالمكان والزمان عنده لا يوجدان بنفسيهما معزولين عن المادة بل هما جزء من العلاقة المتبادلة المتشابكة الكلية التي يفقدان فيها استقلالهما ويبرزان كجانبين نسبيين للزمان والمكان المتكاملين اللذين لا ينقسمان . و ترى الفلسفة المادية أن لا وجود للحقيقة خارجهما (المكان و الزمان) . لذا فالوجود مرهون بالمكان والزمان .
    أما الفيلسوف كانط كانفيرى أن الزمان ليس تصورا كليا ، ولكنه شكل خالص للعيان الحسي . وذلك لأن المرء لا يستطيع أن يتصور غير زمان واحد وحدي ، أما الأزمنة المختلفة فليست إلا أجزاء لهذا الزمان ، وإذا كان الزمان واحد ، فهو لا يقبل أن يكون ذا تصور بل عيان . ويضيف " إن الأشياء في ذاتها لا تأتي إلى عقولنا كما هي دون تغيير ، بل لابد أن تمر بهذا الإطار ، إطار الزمان والمكان ، فتترتب وفقا له ، فكأنما بمجرد أن تصبح مدركة ، لابد أن تظهر على هيئة الزمان و (المكان) ، ونحن لا نعرفها كما هي في ذاتها ، بل كما تبدو لنا ولهذا فنحن لا نعرف إلا الظواهر" . ويجد أن المكان واحد فريد في جوهره ، والتعددية فيه تستند فقط على التحديات ، ويعني هذا أن المكان عنده حدس أولي ولا يتعدد المكان ذاته . وأن المكان ليس في الحقيقة لا متناهيا ، وهو يدور شأنه شأن سطح الكرة الأرضية . وخلافا عن الزمن ، فان المكان قابل للانعكاس حيث نستطيع السير فيه باتجاهات متعاكسة ونستطيع العودة إلى نقطة البداية .
    ويخلص كانت إلى القول " إذا كان المكان والزمان ثابتين بالمعنى العام للوجود حيث المكان الذي لا يحويه مكانا إلا نفسه . أما الزمان فسائر بالوجود . وأن التغيير الذي يحدث ليس منهما ، وإنما من المادة القابلة للتغيير والانتقال ، إلا أن المادة لا تقوم بذلك لولا الحركة التي فيها . إذن الحركة والتغيير هما سبب الإحساس بالمكان والزمن . ولسنا في مجال الغوص في جدليات فلسفية معمقة ، بل عرض مبتسر لبعض الآراء والأفكار ذات الصلة ، ولهذا يجدر بنا وبإيجاز ، استخلاص السمات والحجج التي عرضها الفلاسفة :-

    · حجج المكان

    -
    المكان ذو أبعاد ثلاثة ، أما الزمن فليس له إلا بعد واحد
    -
    يعبر المكان عن توزيع الأشياء الموجودة وجودا تلقائيا
    -
    يعبر المكان عن تتالي الظواهر
    -
    من الممكن تخيل لا شيء في المكان ، ولكن من المستحيل تخيل لا مكان .
    -
    المكان ليس تصورا تجريبيا ، هو مجرد من التجربة الخارجية ، وذلك لأن المكان مفترض مقدما في دلالة الإحساسات على شيء خارجي ، والتجربة ممكنة فقط من خلال مثول المكان .
    -
    المكان تمثل ضروري أولي ، يشكل الأساس لجميع الادراكات الخارجية ، إذ لا يمكننا أن نتخيل أن ليس هناك مكان ، ومع ذلك يمكننا أن نتخيل اللاشيء في المكان .
    -
    المكان ليس تصورا منطقيا أو عاما للعلاقات بين الأشياء بوجه عام ، إذ أن هناك فقط مكان واحد ، تكون ما ندعوه " أمكنة " أجزاء له وليست أمثلة .

    · حجج الزمان

    -
    يعبر الزمن عن تتابع الظواهر حيث تحل الواحدة محل الأخرى
    -
    الزمان لا يرتد ، بمعنى أن كل عملية مادية لا تتطور إلا في اتجاه واحد من الماضي إلى المستقبل
    -
    إن الحركة هي ماهية الزمان والمكان ، وان المادة و الحركة و الزمان والمكان لا تنفصل عن بعض .
    -
    بما أن المادة مرئية والزمان غير مرئي ، فهو ليس مظهرا من مظاهرها ، وإنما هو متطلب شرطي مستقل و متداخل لها ليس إلا .
    -
    تأنيب الضمير يعبر عن عجز تجاه الماضي ، و هو في الوقت نفسه يعبر عن بعد التقدم .


    · الزمكان
    -
    مصطلح حديث منحوت من كلمتي الزمان والمكان ليعبر عن الفضاء رباعي الأبعاد الذي أدخلته النظرية النسبية ليكون فضاء الحدث بدلا من المكان المطلق الفارغ في نظرية الكم .
    -
    والمصطلح ببساطة شديدة يعني السفر عبر الزمان والمكان في آن واحد .
    -
    من خلاله جاءت فكرة السفر عبر الزمن ، لتمنح الإنسان أملا خياليا في تغيير حاضره و مستقبله ، بل وربما مستقبل العالم أيضا .



    الإبداع الإنساني في المكان والزمان

    درس كونار تورنكفست Gunnar Tornqvist (مائة عالم نال جائزة نوبل ، ومن جنسيات مختلفة وفي أزمنة متباينة . درس سيرهم الذاتية قاصدا معرفة العوامل الموضوعية (البيئية) التي ساعدت على نبوغهم و تقدمهم على غيرهم في الأداء
    و الأفكار . لقد بحث عن ظروف المكان والزمان اللازمين للإبداع الفكري . لا أريد أن الخص البحث ، ولكني اعرض أبرز ما جاء فيه من نتائج .
    -
    بالنسبة للعديد من العلماء المميزين كان للمدرسة أهمية خاصة في حياتهم . فهم يتحدثون بحرارة عن كفاءة مدرسيهم الذين أيقظوا الاهتمامات فيهم وأثروا على تركيزهم في دراستهم اللاحقة . وكانوا يتحدثون عن المدارس بتخصص معين
    و طلب محدد ، لذا تحدوا قدرات الطلبة الآخرين بما فيهم الممنوحين هدايا و جوائز في تلك المدارس . إذن المدرسة كمكان تعلم وبمواصفات معينة كانت عاملا بارزا في الإبداع الفكري لهؤلاء العلماء . فمدارس المتميزين يمكن أن تكون أماكن نبوغ وإبداع وتنافس يثمر الخير للبلد والعلم .
    -
    إن بيئة الإبداع يجب أن ينظر لها مبدئيا كأماكن و مجاميع جذبت الكفاءات ضمن تخصص علمي محدد . وتأسست هذه التقاليد ، جزئيا ، نتيجة جذب الأماكن
    و المؤسسات ذاتها لأشخاص معينين ولفترة زمنية طويلة . وفي حالات محددة ، فقد احتاجت قوة الجذب هذه حوافز و دفعا من أشخاص من خارج الميدان التخصصي ، وكذلك المفكرين . وفي حالات أخرى ، فان قوة الجذب قد تأثرت بالبيئة حيث الفائض الاقتصادي و ظروف العمل الحازمة . وفي الأماكن حيث تتوافق هذه الشؤون فان الجذب يكون قويا بشكل خاص . أي إن مؤسسات علمية (بحثية) معينة قد شكلت أماكن جذب للأذكياء و المبدعين ليلتقوا ويتحاوروا و يتعاونوا و يبدعوا . والمراكز والوحدات البحثية هي المقصودة ، إضافة إلى النوادي الخاصة برجال العلم و المفكرين .
    -
    إن التعدد و التنوع يعززان العمليات الإبداعية ، بينما التشابه و التوحيد ألنسقي التجانس لا يعملان ذلك . والعديد من الأمثلة الموثقة قد أعطت انطباعا خاصا بان بيئة الإبداع في بعض الأوقات كانت عبارة عن فوضى . والملاحظة الهامة التي أخذت عن العملية الإبداعية و التجديد الشامل بأنهما يبدأان حيثما تتطابق الكفاءة المميزة و صلات حميمة مع حالة اللااستقرار و اللاضمان . وهناك الكثير عن تضمين كل عملية إبداعية ، وسواء أكانت معنية بالابتكار التقني أو تغيير جذري في البحث أو فن جديد ، تضمينها لما يمكن تسميته باللااستقرار البنيوي . و هذا اللااستقرار البنيوي يسهل عملية خروج الأفكار عن النمطالموجود و الضوابط الصارمة المحيطة بها . هنا جاء الزمن ، الزمن الصعب ، سيادة الفوضى والخروج عن المألوف ، والحاجة لإثبات الوجود والخروج إلى العالم الذي أصبح بأمس الحاجة لشيء يبهره و يجعل أنفاسه تقف وروحه تستكين ، وبالتالي تتلاشى الفوضى . فالتنوع والتعدد مصدر قوة اقتصادية واجتماعية وحضارية ، ولكنه نقطة ضعف عندما يستغل لأغراض سياسية دنيئة .
    -
    الظاهرة المميزة في مختلف السير الذاتية تركيزها على أهمية البيت و المدرسة في إيقاظ و تطوير الطاقة الإبداعية عند الأشخاص . وبتتبع حياة مبدعين فرادا و ما توحيه سيرهم الذاتية ، فهناك حالات عامة تؤثر على جغرافية الإبداع . وهي : العلاقات حيث أدركتها جيدا الدراسات السابقة عن البيئات . و المعطى الجديد المضاف هو الفائض الاقتصادي ، و أهمية سماح البيئات المختلفة للبدائل و الفرص للخروج عن المألوف في القيم و أنماط الأفكار . و الملاحظة الأخرى أن المناقشات و اللقاءات تسمح بتجمع الأشخاص المبدعين مع بعض و تشكيل أفكارا يمكن أن تقود إلى تجديد شامل . و بالختام فهناك سبب وجيه لتكرار القول : كيف أن عددا قليلا من مسارات حياة أشخاص يعكس التغيرات الجذرية في المجتمع الأكبر . نجد هنا المكان بأكثر من صيغة ، المنزل ، المدرسة ، أماكن اللقاء (نوادي ومكتبات) ، وبالتالي انشغال هؤلاء المبدعين عن من سواهم بالعلم دون الانخراط بمسارات الفوضى السائدة في زمانهم .

    مجرد تساؤلات

    وفي الختام ، لقد أثار الموضوع كوامن وشجون و محطات بحاجة إلى أن نقف عندها لنراجع أنفسنا ونكون صريحين معها ولو لمرة واحدة . والتساؤلات هذه مجرد تساؤلات لا غير ، فلا ضير من عرضها .
    -
    هل أدركنا ماهية المكان ؟
    -
    هل استوعبنا علاقتنا به ؟
    -
    ما السبيل لتنميته ؟
    -
    أليس التنوع مصدر قوة ؟ لماذا نسمح لأن يكون نقطة ضعف ؟
    -
    هل يمكن أن تشع عن اللااستقرار و اللاأمان الحاليين في وطننا ومضات إبداع تعيد الثقة وتطمئن بالنفوس الحائرة ؟
    -
    أليس الحوار سبيل جيد لحل المشكلات والنهوض من الكبوة ؟
    -
    أليس المسكن موضوعا جيدا للدراسة كمكان ؟
    -
    أليست المدرسة بحاجة إلى دراسة كمكان ؟ لنعيد لها مكانتها وأهميتها .
    -
    ألسنا بحاجة إلى الاهتمام بأماكن يلتقي بها من نأمل بهم خيرا و نحميهم من شذاذ الآفاق ؟
    -
    السنا بحاجة إلى مبدعين ينقذونا من محنتنا ؟ ولا أقول سياسيين و العياذ بالله .
    -
    السنا بحاجة إلى مراكز و وحدات بحثية تجمع من يريد خدمة بلده بعلمه و يطور نفسه و بالتالي المؤسسات التعليمية في البلد ؟ ولا أقول الإبداع رغم انه الهاجس و المقصد .
    أ.د. مضر خليل عمر



      الوقت/التاريخ الآن هو 10/5/2024, 6:58 am