أمكنة

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
أمكنة

مجلة ثقافية تُعنى بأدبيات المكان


    غائب طعمة فرمان واسئلة التأمل - الذروة الكاشفة عن الزمان والمكان في النص الروائي

    رائدة زقوت
    رائدة زقوت


    عدد المساهمات : 177
    تاريخ التسجيل : 17/12/2010

    غائب طعمة فرمان واسئلة التأمل - الذروة الكاشفة عن الزمان والمكان في النص الروائي Empty غائب طعمة فرمان واسئلة التأمل - الذروة الكاشفة عن الزمان والمكان في النص الروائي

    مُساهمة من طرف رائدة زقوت 25/3/2011, 11:04 am

    تقف ثقافة المكان والزمان في ذروة التاريخ الروائي في العراق، فمن هذه الثقافة يكون الانطلاق في البحث عن مادة الوقائع والأحداث لعمل أدبي ما. وقد قرأتُ ببالغ الأهتمام البحث المعنون (الزمان والمكان في روايات غائب طعمة فرمان..). لكاتبه د. علي إبراهيم فوجدتُ من القراءة الأولي أن ثقافة الباحث الأكاديمية يمكنها أن تكون قادرة حقاً علي كشف المنابع الشعبية، ومن ضمنها المكان الروائي، التي تسهم بهذا القدر أو ذاك في تكوين ليس فقط شخصية الكاتب انما تكشف الطريقة والوسائل المساهمة في بلورة أفكاره.
    فالمكان وتابعه الزمان المحيطان بإبداع الكاتب غائب فرمان أوجدا له ميزة خاصة في فترة انتقالية مهمة في أثناء تبلور الكيان السياسي ــ الاجتماعي في العراق، وفي حياة وحركة الشعب العراقي، كما أوجدا عنده نوعاً من الانتماء لوطنه ولقضاياه بعيداً عن الانتماء لحزب من الأحزاب السياسية، في وقتٍ اقترب فيه من الأوضاع السياسية التي تفرزها مفردات الحياة الإنسانية حتي في ظل التوترات السياسية.
    اعترف في البداية أن دراسات من هذا النوع قليلة جداً في الأدب العراقي.
    كما أنه ليس كل الدراسات الصادرة عن الموضوع نفسه، سواء.
    فبعضها تناول المكان في زاوية ضيقة توقفت عند محددات مقفلة ولم يتناول المكان كله بما يضمه من جموع الناس القاطنة فيه مزاولة نشاطاتها الاقتصادية والسياسية المختلفة..
    لقد كانت محاولته في تناول حياة وابداع كاتب جريء وعميق كغائب فرمان مثل مزنة من مطر في موسم جفاف الحياة الأدبية العراقية في الوقت الراهن. إن فن تناول السيرة الذاتية أو السيرة الروائية لأي كاتب ينعكس في التأثير المتبادل أو المتكامل بين أدبه وحياته، هو رغم عظمته، في الآداب العالمية، إلاّ أنه لم ينم، بعد، في الأدب العراقي. فالمحاولات في هذا الصدد معدودة وقليلة، خاصة المحاولات الأكاديمية، التي تركزت بالدرجة الأساسية علي الشعراء العراقيين. أما الدراسات عن القصة والرواية فهي قليلة جداً تناول بعضها المصادر المحدودة في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي من قبل عدد من الباحثين العراقيين الذين اعتمدت دراسة د. علي ابراهيم نفسها علي بعض معطياتهم..
    ينبغي ان يكون ثمة انتقاء. هذا ما قاله هربرت ريد.
    علي أساس فلسفة الانتقاء أري أن ولوج الباحث لأدب الروائي العراقي غائب فرمان كان صعباً حقاً (170 صفحة) وربما استغرق منه سنوات عديدة كما أظن ، لكنه في الحقيقة كان ولوجاً علي درجة عالية من الوعي، بل كما يلج الكيمياوي إلي مختبره حاملاً معه أدوات التحاليل كاملة. لقد وفر ليس فقط محاولة وزن كفاءته الروائية بل تحقق، موضوعياً، من خلال ذلك البحث في الينبوع الفياض لكل كتاباته، أعني كشف الحياة اليومية في بقعة من مكان المجتمع العراقي ما أوصله بالنتيجة إلي إغناء ساحة الإبداع والنقد الأدبيين في العراق مما يجعل كتاباً بحثياً من هذا النوع والحجم إضاءة ستستفيد منها الدراسات اللاحقة في قضايا عديدة مطروحة في مجال الأدب الروائي.

    سيرة الكاتب
    تخصص القسم الأول من الكتاب في البحث عن الكاتب العراقي فرمان تحت عنوان شيء عن غائب طعمة فرمان . بدا من كلمة شيْ الواردة فيه أنه فضل الاقتصاد في الكلام عند تحرير هذا القسم بالاقتصار علي جانب واحد من سيرة الكاتب. لكنني وجدتُه من ناحية أخري لا يعطي نفسه فرصة الراحة، إذ تعقب أبرز جوانب حياة غائب فرمان متناولاً نشأته وعمله وثقافته ولغته، واهتماماته الأدبية الأولي ونواحي تطورها، فقدم نظرة واسعة، في بضع صفحات، كاشفاً تنويعات كثيرة عن حياة هذا الكاتب المتمرس بصفته روائياً، مذكراً بأمثلة عديدة برهاناً لما يقال عنه.
    كما تعقب الكثير من أقوال باحثين آخرين تطرقوا، من قبل، إلي بعض جوانب حياة وابداعات فرمان في مجال تطوير الرواية العراقية، الذي أسهم بالدرجة الأولي في نقل روايته من الحيز العراقي الضيق إلي الأفق العربي الواسع.
    بدا لي من أول وهلة أن المؤلف (د. علي إبراهيم) يملك خزيناً من المعلومات عن موضوعه بل هي المعرفة بعينها. كما بدا لي انه سيخوض تجربة الكشف عن واقعية القص في روايات غائب فرمان بمشروع إنشاء شبكة من التحليلات الرابطة بين ستينيات أو خمسينيات القرن العشرين حتي نهايته، أي الفترة التي عاشها غائب كأديب مشخص. ربما يواجه (مؤلف الكتاب) في هذا المشروع معارك مع آخرين ــ عبر المقارنة بين غائب وغيره من روائيي العراق ــ أو ربما يجد نفسه معاوناً لآخرين سبقوه في تناول أدب غائب فرمان أو مكملاً لهم. لكنه هندس شبكته المعلوماتية وأدواته المعرفية عن سيرة الروائي بمعزل عن التبادل والتواصل مع آخرين إذ لا بد أن نتذكر أن كتابة الكتب تشبه خوض المعارك. فقد تحاشي أي شكل من أشكال المقارنة مع مجايليه أو مع من سبقوه.

    انتاج افكار سابقة
    جال الدكتور علي إبراهيم جولة مكثفة سريعة لمتابعة آثار ما كتب عن غائب فرمان داخل العراق وخارجه لاعادة إنتاج أفكار الذين سبقوه فيما كتبوا عنه. فقد تابع مصادر الكتب المنشورة عنه أو الكتب التي احتل بعض صفحاتها أو المقابلات الصحفية أو المقالات المنشورة كي يستدعي ذاكرة الوصول إلي تقييم ينبوع الإبداع في روايات فرمان.
    بيد أنني أريد هنا التوجه بسؤال حول دور اللغة الأجنبية، قراءة وكتابة، في التأثير علي أدب غائب فرمان، خاصة اللغة الروسية التي جعلته قريباً جداً من أدب الكتاب السوفيات الذي أمتاز بما سمي في حينه بالواقعية الاشتراكية. لا ننسي أن الواقعية الاشتراكية ذاتها بما ملكته من قدرة دفع الكتّاب نحو أعماق المجتمع قد جعلت أجيالاً عديدة وكتاباً عديدين في العالم العربي يجدون أنفسهم في هذا المرفأ ومنهم يوسف ادريس، يوسف السباعي، ونجيب محفوظ في عدد غير قليل من رواياته متميزين بذلك عن الكلاسيكية الغربية بصور كثيرة غير منظورة في العلاقة بين حرية انسان الرواية وموقفه في عالم لا يملك فيه الانسان حريته..
    فهل خلق هذا الواقع وعياً مؤثراً في أدب الكاتب العراقي الذي عاش ردحاً طويلاً من الزمن في روسيا تزوج منها امرأة أحبها وأنجبت له، كما انغمر في ترجمة أهم آثار الواقعية والواقعية الاشتراكية.
    هنا نحتاج إلي مقارنات ومقاربات في منابع الأدب الروائي لغائب فرمان خاصة وأن الباحث ابتعد عن تنسيبه إلي جيل معين من الأجيال الأدبية العراقية. أظن أنه محق في ذلك.

    النخلة والجيران
    في الكشوف العديدة لدراسات الواقعية الاشتراكية نجد ان لكتاب هذه المدرسة ولنتاجهم الإبداعي في الشعر والنثر صفات وعلامات خاصة، لبعضها ميزة مبتكرة عمقت الصلة بين الأدب والناس، وبعضها تدني إلي مستوي من الضعف الفني حوكم من النقاد علي أنه نوع من التبعية للأيديولوجيا الحكومية والحزبية السائدة.
    إذا عدنا لروايات النخلة والجيران وخمسة أصوات وآلام السيد معروف وغيرها، ألا يجدّ الباحث الأدبي نفسه أنه يضعها، مضطراً، في قاعة المحاكم النقدية للتعرف علي مقدار التأثير بينها وبين البيئة التي عاشها غائب فرمان في أعلي مراحل وعيه، أعني بيئة الواقعية الاشتراكية..؟
    إن حواراً طال ويطول بشأن هذه المدرسة وبشأن أولئك الكتاب الروس وكتاباً عالميين آخرين وقعوا تحت تأثيرها. وقد استمر النقاد الباحثون حتي الآن في محاولاتهم للكشف عن قوة وضعف هذا النوع من الأدب. وليس هناك وسيلة أفضل من دراسة واقعية أدب غائب فرمان للولوج إلي داخله للتبصر في أسباب تحرره من قيود الأيديولوجيا في أدبه، وانتمائه إلي واقعية عراقية خالصة تحكمت في ولادتها نوعية خاصة ومستقلة من الأفكار.
    لقد تخصص غائب فرمان، كما ظهر من فصول أبحاث د. علي إبراهيم، في السعي لبلوغ ومتابعة معاناة الفرد العراقي في أعماق المجتمع مقترباً بذلك من ريادة نجيب محفوظ بهذا الشأن.
    بهذا المعني كان غائب كاتباً استراتيجياً يحمل ضميراً انتقادياً حراً، عمل بشكل (بعيد) عن (مكان) مجتمعه لكنه استطاع، عن قرب، محاورة افراده بكل طبقاتهم وأصناف مهنهم ومراتبهم الاجتماعية وعلي مختلف صفاتهم الأخلاقية، فاجأ تبعاً لذلك جميع قرائه بما استخلصه من عمق الرؤية الروائية الداخلية في المجتمع.
    من تحليل رواياته نجد فيها تكثيفاً واضحاً لواقعية معاناة أبطاله في مجتمع متخلف يعاني بلا حدود من نتائج هذا التخلف. بنفس التحليل يمكن التوصل إلي نقاط التقاء كثيرة مع كتابات رموز الواقعية، والواقعية الاشتراكية بالذات كالبساطة في استخدام اللغة بعيداً عن استخدامات تعقيداتها أو تراثياتها مسلطاً الأضواء علي حركة ومعيشة وثقافة أبطال رواياته المتربعين في زوايا العتمة الاجتماعية. كانت جميع شخوصه عادية ومألوفة اجتماعيا كما هو نمط شخصيات الواقعية الاشتراكية، مع فرق وحيد ان غائب فرمان تخلص من كل أشكال المبالغة التي وصمت آثار الواقعيين الاشتراكيين. كما استطاع التخلص من الفرويدية التي علقت كلياً بروايات احسان عبد القدوس علي سبيل المثال كروائي واقعي أيضاً.
    بهذا الصدد ينبغي تتبع النماذج المختلفة التي استدعاها في قصصه ورواياته، بما في ذلك الشخصيات الكوميدية، أو الشخصيات الساذجة التي مثار التهكمية وعددهم كان كبيراً في معظم أعماله أبتداءً من النخلة والجيران وهي ذات صفة واقعية تعكس واقع حال المجتمع وتاريخه.
    عند تحليل (المكان) في الفصل الثاني، النخلة والجيران، مثلاً كان الوصف مقتصراً علي (شكل) المكان و(حدود) المكان. أما عمقه غير المرئي فلم يحلل. فالعمق الأساسي هنا هو عمق طبقي بالدرجة الأولي. فالمكان البائس الموصوف من قبل الراوي كان يرمز للطبقة الفقيرة العاملة في مجتمع حديث العهد بالتصنيع الاستهلاكي آخذ في تجميع الناس القادمين من خارجها فيتكدسون، أفراداً وعوائل، في بيت واحد أو في أزقة ضيقة تفرز علاقات اجتماعية معينة متدنية بأوصاف نفسية معينة تصل حد الرثاثة. أهم ما في تلك العلاقات والصفات هو التوتر والمشاكسة والانغمار في حياة عقيمة. وقد بدأتَ في تشخيص هذه الأمكنة التي وصفها الباحث (أنها بائسة كبؤس الشخصيات).
    هذه الناحية تحتاج إلي التعمق فان (المكان) في رواية النخلة والجيران، كما في أغلب روايات فرمان يعكس مدلولات عميقة أولها أن الصراع الطبقي لم يكن واضحاً بعد في المجتمع العراقي. بل أن هذه الرواية بصفة خاصة قدمت الصراع الثانوي كناتج عن الجهل بالدرجة الأولي. . وأظن أن فرمان كان واعياً لهذا الاستنتاج مما يتطلب التعمق برؤية جديدة لتحليل (الواقع الاجتماعي) في بلد متخلف.
    أما المكان في خمسة أصوات فهو إجمالاً مختلف عن (المكان) السابق. فإضافة لأماكن السكن البائسة غير أن استخدام (المقهي) له دلالات أخري. فالمقهي، كما أرادها فرمان، هي (مكان) التجمع الذكوري في المجتمع، وهي مكان جديد النوع لذوبان بعض علائم الفردية، كما أنها مكان لتبادل الآراء وتحسس مشاكل فردية متبادلة يضاف إليها تحسس المشاكل العامة. باختصار فان المقهي في العادة هي مكان الحوار بين الآراء المختلفة. ألا ينبغي كشف هذا كله في البحث عن دور (المكان) ورموزه.
    في هذه الحالة تتوفر فرصة تحليلية أعمق لرؤية فرمان لمجتمعه وحركة الأحداث والشخصيات فيه.
    لماذا خمسة أصوات..؟ أليس في ذلك بداية لاستخدام رمز موحٍ. ما العلاقة أيضاً بين (الصوت) و(المكان) أي بين الرمز والمكان.
    لا أريد تكرار هذه الجوانب في الإشارة إلي بقية روايات فرمان وأمكنتها ذات الدلالات المختلفة. بل أكتفي بالإشارة إلي قول الباحث نفسه في الصفحة 46 حين قال (في حالة تجرد المكان عن مدلوله الرمزي يتحول إلي وصف فارغ لا معني له).

    اراء نقدية واكاديمية
    لاحظتُ أسلوبه عند كتابته مقدمة لكتابي المعنون أنا عشيقة الوزير فتكونت عندي نفس الملاحظة في دراسته عن فرمان أنه لا يستخدم روح النقد ووسيلته بل يكتفي بـ(عرض) القصة أي استعراض تنقل كاتبها من مشهد إلي مشهد ومن حركة إلي حركة ومن حوار إلي آخر. هذا الأسلوب لا يساعد القارئ في شيء لأنه هو ذاته قد قرأ القصة.
    هناك فرق جوهري بين (العرض) و(النقد) وهناك فرق بين (العرض) و(البحث). ففي حالتي النقد والبحث يستلزم القيام بعملية (تقصي) واسعة عن كل شيء، عن المكان والزمان وجوهر استخدامهما، كما يستلزم الغوص هنا وهناك في شكل القصة ومضمونها للتوصل إلي استنتاجات واكتشافات لغوية وتكنيكية ومضمونية اعتماداً علي معايير أساسية في فن القص والرواية.
    أن عرض الرواية ليس مجرد تعضيد أو تشجيع من الناقد إلي المؤلف، كما أن (النقد) ليس مجرد تقريع الناقد للمؤلف. فكل كتابة وكل كاتب يحتاجان للباحث والناقد كي يسهما معاً في كشف الموضوعة الفنية وتطوير آفاقها.
    من دون هذا الأسلوب فان أدبنا العراقي سوف يختنق.
    أنا واثق جداً من إمكانيات د.علي إبراهيم النقدية و الأكاديمية التي أوضحها الجوهر الأساسي المعتمد في صياغات كتاب (الزمان والمكان في روايات غائب طعمة فرمان) لكن الأكاديمي يجب أن يحولها من رياح هابة إلي نسيم معتدل قادر علي المساهمة في عملية إزهار الرؤية النقدية والأدبية. بوسعه إذاً استخدام ثقافة وذكاء واضحين في الكتاب في استخدام نقد بأسلوب لا يخبرنا فقط عن الموضوع الذي تتناوله هذه الرواية أو تلك بل يخبرنا عن الموقع الأدبي الرفيع الذي تحتله في الثقافة العراقية، أو العكس تخبرنا عن الضعف الذي قد يؤدي إلي قطيعة الرواية عن جمهورها.
    لا بد من الإشارة إلي أن مجرد (عرض) الرواية هو (مهنة) صحفية لبعض أختصاصيي الصفحات الثقافية، بينما النقد المتقصي هو (علم) مختص بجانب من جوانب الحياة الأدبية. وصاحبنا إبراهيم مؤهل للثاني وليس للأول.
    لقد كتب غائب فرمان روايات عديدة تكفي عند دراستها لأن تكون عملاً تجريبياً هاماً في رؤيا الرواية العراقية المعاصرة مقترباً الي حد كبير من ريادة الواقعية العربية وابرز روادها، محفوظ وحنا مينا والطيب صالح.
    هذا التجريب هو الذي ينبغي ان يكون محل البحث.
    ان الروائي ليس انساناً اعتياديا، خاصة من مستوي فرمان بل هو انسان ينجز عمله في عالم متخيل يبتكره لا لنفسه، لكنه لا يستطيع ان يرتبه في مستقبل الأدب ككل إلاّ بتدخل واضح وصريح من النقد والناقد، وأنه لأمر حتمي ان يكون هذا التدخل متناقضاً مع الكاتب أو معارضاً له أو مؤيداً، في كل الحالات يتطلب من الناقد أو الباحث كفاءة وتجربة توازي كفاءة وتجربة الطبيب الجراح المتوجه إلي صالة العمليات الذي يمنح لمريضه حياة أو تحسيناً لحياته بعد حين.

    هموم الابطال
    بقدر ما تحقق روايات غائب فرمان هوية أبطالها راصدة حركاتها وتطورها، بقدر ما يحتاج بحثاً عن مكانهم وزمانهم. البحث عن الهويتين الاجتماعية والتاريخية المتفاعلتين داخل العمل الروائي نفسه. فمهمة الباحث بالأساس هي الإجابة علي سؤال: هل أن الهويات جميعها في الرواية الواحدة متوافقة مع منظور الرواية. هل أن آلام السيد معروف مثلاً مؤتلفة مع تاريخية الواقع الاجتماعي وتفصيلاته. هل ان رموز (المركب) متوافقة مع (أبعاد) الموضوع. بماذا يمكن تصنيفها أدبياً: هل هي رواية تغيير..؟ أم هي رواية تقرير..؟
    هذا السؤال يحتاج الدخول في خطوط عريضة للعلاقة العقلية والتخييل الفني في أعمال فرمان.
    أشير هنا إشارة سريعة إلي ما قاله الناقد والروائي الفرنسي ميشيل بوتور في وقتنا الحاضر لا وجود لشكل أدبي يتمتع بالقوة التي تتمتع بها الرواية. إذ أننا نستطيع أن نربطها بدقة تامة، بالعقل أو العاطفة بحوادث حياتنا التي لا قيمة لها بما يتعلق بالأفكار والحدس والأحلام. لكنها مع ذلك هي وسيلة مدهشة في الصمود والاستمرار في العيش بادراكٍ في عالم مخيف يهاجمنا من كل مكان.. . من هذا المنطلق يمكن تحويل العلاقة الفردية التي تبدو هامشية في النخلة والجيران مثلاً أو في غيرها إلي افق جماعي يوحي بمدي العلاقة بين الرواية والتاريخ.
    لا أريد الإطالة بالتحدث عن الفصول الخاصة بالزمان في روايات فرمان فانني أري نفس الأسس في علاقتها بالتاريخ.
    جدير بالملاحظة أن علي إبراهيم تولي في هذه الفصول مسافة كافية لتمرير خطوط الضوء الكاشفة لعلاقة الزمن الروائي الفرماني بالتاريخ العراقي.
    لقد كان الفصل الخاص المعنون (علاقة المكان باللغة عند غائب طعمة فرمان) قائماً علي الأسس التي أراها ضرورية في البحث الأكاديمي. هذا الفصل هو النموذج المطلوب في بحث كل الجوانب الأخري وحبذا لو جري توسيعه بالدخول إلي دلالات اللغة الفرمانية واسباب خلوها من اللغة القاموسية التي يدعو لها أصحاب الحداثة في هذا الوقت.
    أتذكر بهذه المناسبة رواية (النفوس الميتة) لنيقولاي جوجول. انقسم النقاد بشأنها إلي ثلاثة أقسام:
    ــ القسم الأول وصفها بانها رواية الاضحاك والتسلية. كان جوجول استخدم أسلوبه التهكمي الساخر .
    ــ القسم الثاني وجد فيه أعنف نقد وأعظم الهجاء للمجتمع الروسي.
    ــ القسم الثالث من النقاد وجد فيه مساساً عنيفاً بالشخصية الروسية.
    وقد كانت لغة الرواية المذكورة هي التي هزت النقاد وجذبتهم لمتابعة الرواية ودراستها. واللغة ذاتها هي التي خلقت له الكثير من المتاعب الأدبية وغيرها فاضطر فيما بعد إلي اصدار جزء ثان للرواية مدافعاً فيها عن فضائل الشخصية الروسية. لكن من دون جدوي فقد ظلت (النفوس الميتة) رواية لها امتياز خاص في الادب الروسي.
    كان تناول البناء الزماني في روايات فرمان قد أخذ بعض التفاصيل المهمة التي شرحت عدداً من المعاني التي فاتها تسليط الضوء عند البحث في المكان. هذه نقطة إشارة واضحة تسجل للدكتور علي إبراهيم إذ بني ترابطاً بين المكان، واللغة، والزمان. وبذلك حرر نفسه وحرر كتابه من تبعة الحمولة الثقيلة التي ترهق البحث بالتفاصيل الصغيرة أحياناً، فاعتماده علي تحاليل معطيات السرد الاسترجاعي كحساب من حسابات الزمن الماضي، بالاستفادة في ذات الوقت من السرد الاستشرافي كحساب من حسابات المستقبل، منح من دون شك عمقاً أضافياً لبحثه خاصة وأنه أخذ من الخطاب الروائي وسيلة لتفكيك الزمن، بالعكس مما فعله أثناء تفكيك المكان وسيلة لبناء الرؤية الاجتماعية.
    ختاماً أقول أن جهده في الكتاب سيضعه في مصاف الدراسات الغنية المهمة في مكتبة الأدب العراقي. فقد تحرك في البحث بحركة مضبوطة في إعادة توليد روايات غائب فرمان بكشف المفارقة التاريخية في المجتمع العراقي بمراحل متعددة من تطوره بكيفية ملموسة وواضحة وغنية.

    دلالات الرواية
    بكل فخر أقول: أن رؤياه في هذا الكتاب تدل علي غزارة ثقافة أدبية متسعة ومتعددة بما تشكل طروحات تجعل من كتاب (المكان والزمان في روايات غائب طعمة فرمان) لبنة أساسية في نظرية الرواية العراقية. فقد وضع كتابه علامات هامة عن الدلالة العامة للرواية ومعناها ونهجها من الوجهة الفلسفية والتاريخية متمنياً له الصبر الطويل لتقديم أعمال جديدة مكملة لتنظير الرواية العراقية.

    جريدة (الزمان) العدد 1229 التاريخ 2002 - 6 - 8
    جاسم المطير

      الوقت/التاريخ الآن هو 9/5/2024, 2:30 pm