أمكنة

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
أمكنة

مجلة ثقافية تُعنى بأدبيات المكان


    المكان في ديوان " خلف أسوار القيامة"* للشاعرة لينا أبو بكر

    أمكنة
    أمكنة
    Admin


    عدد المساهمات : 285
    تاريخ التسجيل : 16/12/2010

    المكان في ديوان " خلف أسوار القيامة"* للشاعرة لينا أبو بكر  Empty المكان في ديوان " خلف أسوار القيامة"* للشاعرة لينا أبو بكر

    مُساهمة من طرف أمكنة 25/3/2011, 9:17 am


    المكان في ديوان " خلف أسوار القيامة"* للشاعرة لينا أبو بكر



    د. محمد عبد الله القواسمة **



    يبدو المكان بؤرة من البؤر المهمة التي تنبني عليها قصائد ديوان "خلف أسوار القيامة" للشاعرة لينا أبو بكر. نلمح هذا في الكلمات الأولى التي حملها عنوان المجموعة بوصفه ذا دلالة سيميائية على ما تقوله المجموعة من ناحية، وعلى ما تتكّون منه من ناحية أخرى. كما جاءت بعض العناوين الداخلية حاملة سمات مكانيّة واضحة، مثل عنواني القصيدتين: الفردوس، ونخبك باريس. كما تكرر العنوان في قصيدة مندورا خلف أسوار القيامة.
    يلاحظ أن كلمة القيامة التي تركّز حولها العنوان تشير إلى مكان ميثولوجي يترقبه الإنسان بخوف مهما كانت قوة إيمانه، وهو مكان مغلق ذو أسوار عالية تحيط به، إنه يشبه السجن إلى حدّ ما. ويمكن أن نطلق على هذا المكان والأمكنة الشبيهة به المكان غير المرغوب فيه.
    نلتقي في مجموعة الشاعرة لينا عدة أمكنة غير مرغوب فيها، والمكان منها يثير في النفس الشاعرة مشاعر الرفض والغضب؛ لهذا فهي تحاول أن تتجنبه وتبعده عن الوعي، وإذا ما اقتربت منه فيكون ذلك على خجل أو خوف، ويبرز هذا المكان في قصيدة البياض، إنه المكان المنفى الذي لا دفء فيه، ولا استقرار تلوذ فيه النفس على أحزانها وشقائها باحثة عن ذاتها الضائعة:
    فماذا لدي سوايَ
    المكان في ديوان " خلف أسوار القيامة"* للشاعرة لينا أبو بكر  Thumbnail.php?file=26qpt97_1__902666149

    ؟!
    وقاطرة من غمام المنافي
    وبرد الشتاء
    وحنظل بَردي؟ (ص62)
    في قصيدة " للتاريخ بقية " يبدو المكان مستلاً من الذاكرة الميثولوجية الدينية، وتظهر مدينة ارم رمزاً للمدن التي فقدت إنسانيتها، وغدا الإنسان فيها عرضة للقتل والجلد، إنّها تستحق على جرائمها ما جرى لمدينة إرم التي بلغت شأواً عظيماً في زينة بيوتها وفخامتها.
    إرم وُثقت في عنق الصحراءْ
    وأبيحت للصيحة.. عاد
    يزدوج البحرُ
    لأن المدن نساء
    يتزيّن للريحِ
    ويقترفن الموت.. بأحضان الجلاد (ص14-15)
    لا غرابة في أن تستدعي مدينة إرم أشباهها من المدن التي تطاولت في البنيان، وزحفت لتبتلع ما يحيط بها من أرياف بما تمثله من حرية وانطلاق وبراءة وجمال.
    أرياف طاعنة في المجد
    يصادرها
    قانون المجد (ص15-16)
    وفي قصيدة مندورا خلف أسوار القيامة يتسع المكان ليعبّر عن العالم الذي يتعرض فيه الإنسان إلى القهر والفقر، والذي تتساوى في نظره الحياة والموت مادام لا يحظى بما يعينه على الحياة:
    ما الفرق؟
    موتى.. جوعى..
    جوعى.. أحياء
    ترى ما الفرق؟! (ص76)
    من الملاحظ أنّ هذا الأماكن وما يتصل بها يرد في قصائد المجموعة على شكل مقاطع تبدو غير مندغمة في السياق الشعري، ولم ينفرد أحدها بقصيدة متكاملة، إنّ الشاعرة تنفر منها لما تمتاز به من قسوة وخشونة، وربما لهذا قدّمتها منفصلة ومن خلال مفردات تدل على ذلك، من أمثال: الريح، العواصف، الشتاء، البرد، الحنظل، الجلاد، الطغيان، الصيحة..
    في مقابل هذه الأمكنة غير المرغوب فيها هنالك المكان الحلم والمكان المعايش، ويتمثلان في مدينتي باريس، وعمّان، وقد تجلَى المكان الأول في قصيدة نخبك باريس، وتمثل الآخر في قصيدة لو كان بالإمكان أن تأتي معي!، ولم يكن المكان في كلتا القصيدتين عنصراً من عناصر القصيدة بل كان القصيدة كلها: ففي قصيدة نخبك باريس يبدو المكان جميلاً عبقاً بروائح الفل والبنفسج الممزوجة بروائح المشروبات الروحيّة، وسط الخضرة والماء الرقراق والهواء الناعم كالحرير.
    ولعلّ هذه الحالة من أحوال المكان تستدعي المواقف العشقية بين رجل وامرأة؛ فيلتقيان في مرقص يضج بالموسيقى، ومن ثمّ تتوالد الرغبة، ويتجاوب المكان مع ما يجري حتّى برج إيفل يتمايل منتشياً، والليل يرتعش مشاركاً في هذا الطقس.

    قبلها..
    لمعت عيناها..
    وانكشفت أسرارٌ!
    وصبابة قيثار..
    لِكنارْ
    ارتعش الليل..
    وأدهشها البرج النشوانُ
    يطلُّ على بار (ص53)
    هكذا تصبح باريس معادلاً للعشق، ويبدو السكوت سيد الموقف ليعبر عن القلوب المترعة بالحب لا يسانده غير ارتعاشٍ ما في المكان من أشياء، وما تثيره من أفكار أسطورية فتصل بشخصية باريس الذي تسمى المكان، المدينة، باسمه، إنه ابن ملك طروادة، الذي اختارته الآلهة ليوزع جائزة الجمال، فاختار الآلهة أفروديت ليمنحها الجائزة، ولم تسيطر على فؤاد باريس هذا غير هيلانة فخطفها من زوجها كما خطفت باريس، المكان، عواطف الشاعرة.
    نلاحظ تماسك القصيدة من خلال ما يوفره المكان من تضافر عناصر القصّ: الحدث والشخصية والزمان، فكان تعانقها مبعث اللذة لدى المتلقي، وربما أدرك الناشر أو الشاعرة حدود هذه اللذة؛ فكان التوفيق في اختيار الأبيات التي ظهرت على الغلاف الأخير للمجموعة من خلال تقديم حدث كان للمكان فضل المشاركة في صنعه. فنقرأ:
    في باريس..
    لنا..
    كرسيّانْ..
    يرتديان المعطفَ
    والشال الشفاف..
    ويحتسيان القبلات على بوابة مقهى..
    فإذا حلَّ الفجر..
    يعودان..
    إلى الفندقِ..
    يغتسلانِ
    ويلبس هذا جسم حبيبتهِ..
    فيقوم المصباح بواجبه
    وتغفي باريس شوارعَها..
    فينامان.. (ص55)
    فباريس مكان عام يؤطر الحدث، ثم يأتي المقهى ليشكل مسرحاً له، ثم يسلط الضوء في لقطة مركزة على كرسيين مخصصين لفتى وفتاة، وقد أشير إلى الفتى بالمعطف وإلى الفتاة بالشال الشفاف، ثم تقترب الشفاه بتأثير هذا المكان الباريسي لتلتقي في قبلات متمهلة كاحتساء القهوة، ويستمر الحدث قبلاً حتى مطلع الفجر، ثم يتواصل اللقاء ويبلغ أوجه بظهور مكان آخر، الفندق، ويتبعه اندماج الاثنين أو المكانين بوصفهما يحملان أبعاد المكان ليكونا مكاناً واحداً، ويترك للمصباح كمؤشر زماني ليدلّ على انتهاء الفعل العشقي وإلى حالة من الهدوء والاستقرار تتوافق وهدوء الشوارع في باريس، المكان الرئيس.
    و تحت تأثير المكان تنساب الكلمات عذبة ومفعمة بالجمال والفرح بخلاف الكلمات التي حققت المكان غير المرغوب فيه، فنسمع وقع الكلمات: الفل، والبنفسج، والكمنجة، والشمبانيا، والكونياك، والماكياج، والعنبر، والفردوس، والندمان، والخلخال. فنحسُّ أنَّ المكان ما هو إلاّ باريس وليس غيرها مدينة العطور والمجوهرات.
    أما المكان المعايش الذي تجلّى في قصيدة لو كان بالإمكان أن تأتي معي! فيشكل بؤرة القصيدة تبدأ به وتنتهي، فالذات متعلقة بالمكان لعلاقتها السابقة به، لكنها الآن بعيدة عنه؛ لذا فهي تتمنى أن يرافقها في الغربة، من هنا جاءت لو لتشير إلى التمني المستحيل، ولكن هيهات أن يكتفي القلب بذلك، فينبش التساؤل بأداة الاستفهام هل طلباً لتحديد الإجابة بنعم: هل كان بالإمكان أن تأتي معي؟ لكن في نهاية القصيدة تتأكد الحقيقة باستخدام ما النافية لتظهر استحالة أن يتنقل المكان مع الشاعرة، وهكذا تستقر الحالة، البعد، وتستمر معها حالة التمني.
    من اللافت للنظر أن المكان قد بدا في القصيدة إنساناً من لحم ودم، وقد نجحت الشاعرة في تشخيصه، وبالتالي في تشوقنا إلى معرفة هذه الشخصيّة التي تتمنّى الشاعرة أن تكون معها ، ولكنا نفاجأ في نهاية القصيدة حين نتبين حقيقة المكان بأنه مدينة عمان :
    عمانُ
    قد أجلت عمري
    ألف أمسٍ للوراءِ..عساي أشبهني!
    بعيد تعَفُّرِ القسماتِ بالأختامِ
    واستئصال وجهي من بريد..
    طوابعي
    ما كان بالإمكان أن تأتي معي!(ص103)
    إذن إنّها عمان رمز للوطن الذي تجد فيه الشاعرة ذاتها، لذا فهي دائمة السفر إليه عبر المطارات، أو تأتي إليها أخباره من خلال الرسائل التي يحملها البريد.
    هكذا لاحظنا المكان في مجموعة لينا أبو بكر منفصلاً في القصيدة أحياناً، وأحياناً يقوم بصوغها، وفي كلتا الحالتين فقد حمل تجربة الشاعرة وعلاقاتها بالأمكنة سواء أكانت محببة إليها، أم تحلم في الوجود فيها، أم كانت قد عايشتها في الماضي. لقد بدا المكان نابضاً بالحياة بما يمور فيه من أحداث، ويتراءى من شخصيات تتحرك في الزمن: الماضي والحاضر والمستقبل، من هنا يمكن أن يكون المكان مفتاحاً لفهم تجربة

      الوقت/التاريخ الآن هو 10/5/2024, 4:34 am