أمكنة

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
أمكنة

مجلة ثقافية تُعنى بأدبيات المكان


    المكان والزمان والإنسان في رحلة ابن بطوطة

    أمكنة
    أمكنة
    Admin


    عدد المساهمات : 285
    تاريخ التسجيل : 16/12/2010

    المكان والزمان والإنسان في رحلة ابن بطوطة Empty المكان والزمان والإنسان في رحلة ابن بطوطة

    مُساهمة من طرف أمكنة 25/3/2011, 8:54 am





    * جمال ابو حمدان

    لم يكن ابن بطوطة، صاحب العبارة التي تقول "إن العلاقات الإنسانية هي خطوط الطول والعرض التي تحدّد اتساع العالم"، إنما صاحبها مفكّر وكاتب أميركي، اسمه هنري ثورو، وقد كتبها في رسالة إلى صديق.

    غير أن ثورو ما أن وجه الرسالة، وقبل أن تبلغ صديقه، كان جمع حوائجه القليلة، وارتحل ليعيش في غابة أولدن، وكأنهما مكان خارج خطوط الطول والعرض، مفضّلاً قيم الغابة وشرائع الاختيار الطبيعي، على أرض البشر، وعلاقاتهم الإنسانية، وانزوى في موقعه الموحش الراكد، ليكتب كتابه "أولدن".

    أما ابن بطوطة الرحالة العربي المسلم، فكان له مع معنى هذه العبارة، التي لم يسمع بمنطوقها، شأن آخر، ففي رحلة، تمثّل فيها الأقانيم الثلاثة: الزمان، والمكان، والإنسان، زوايا رأس المثلث بوجه في بوصلته الارتحالية، استطاع ابن بطوطة، أن يخلّد ذكره كأشهر رحالة في التاريخ.

    وإذا ما تصفحنا، السفر القيم الذي يضم وقائع رحلته واتجاهاتها، تحت عنوان "تحفة النظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار"، لتبيّن لنا أن الصلات والعلاقات الإنسانية التي تغلغل فيها، هي أهم ما في هذه الرحلة المتميزة. فإقامة العلاقات مع أهل الأرض، وتجاذب المشاعر بينه وبينهم، هي أساس رحلته، بينما تتضاءل أهمية الجوانب الأخرى المستندة إلى وصف المظاهر على السطح.

    فرحلة ابن بطوطة، رحلة غرائبية ومشوقة في دنيا البشر، على اختلاف طباعهم، وتدرج مستويات حياتهم بين قاع وسفح، وقمة الهرم الاجتماعي الذي كانت سائدة في زمنه على تباينها الواضح، وكانت أزمنة الرحلة وأمكنتها أطراً لرسم الصورة البشرية داخلها بوضوح وجلاء.

    وحين بدأ ابن بطوطة رحلته، لم تكن في باله عبارة "باسكال" التي قيلت في زمن لاحق: "إن السبب الوحيد لشقاء الإنسان، هو أنه لا يعرف كيف يستقر هادئاً في حجرته.." قرر الرحالة العربي، والذي وصفه الغربيون بـ "الرحالة الأمين" ولقبوه بـ "أمير الرحالة"، أن اكتساب حياته قيمة ومعنى، يتأتى من حركته الدائبة الجلودة، خارج موضع استقراره، فأشواق المغارة الارتحالية كانت تجتذبه بعيداً.

    وليس من حجرة تتسع لأشواقه إلى رحابة واتساع الأرض التي كانت معروفة في ذلك الزمان، فحمد الله الذي "ذلل الأرض لعباده ليسلكوا منها سبلاً فجاجاً"، وأن فضاء العالم لا يتأطر عبر نافذة في حجرة، فغادرها "كما تغادر الطيور أوكارها".

    ما إن صار له من العمر 22 سنة، وأتم علومه المستقرة حتى سعى إلى الاستزادة من العلوم المتحركة، فغادر حجرته وبيته وبلده ووطنه، شارعاً في رحلة تاريخية، لم يسجّل التاريخ رحلة مقاربة لها في الشهرة واتساع الآفاق في ذلك الزمان.

    ولم تكن مفارقة الموطن بيسيرة على نفسه، بل كان فيها مكابدة. لكن انفتاح الأفق وراء الخطوة الأولى، هذا الانفتاح الرحب، جعل لهذه الرحلة مذاقها المتميز.

    مع الخطوة الأولى، على مطل آفاق الرحلة، كتب:

    "كان خروجي من طنجة مسقط رأسي، يوم الخميس الثاني من شهر الله، رجب الفرد، عام خمسة وعشرين وسبعمائة، معتمداً حج بيت الله الحرام وزيارة قبر الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، منفرداً على رفيق آنس بصحبته، وركب أكون في جملته، لباعث في النفس شديد العزائم، وشوق إلى تلك المعاهد الشريفة كامن في الحيازم، فجزمت على هجر الأحباب من الإناث والذكور، وفارقت وطني مفارقة الطيور للوكور، وكان والديَّ على قيد الحياة، فتحملت لبعدهما وصباً، ولقيت كما لقيا من الفراق نصباً، وسني يومئذ اثنتان وعشرون سنة".

    وكانت سنة انطلاقته في رحلته موافقة لسنة 1326 ميلادية، الواقعة في حقبة مضطربة متفجرة من التاريخ العربي الإسلامي، في بلدان الشمال الإفريقي وبلاد الأندلس، فالممالك والإمارات والولايات تنفرد وتنطوي، بحركات انقباض متسارعة الوقع، وممالك الطوائف في بلاد الأندلس، تتناثر مزقاً، ثم تتساقط في قبضة الإسبان، تاركة غرناطة مثلاً ماثلاً وحيداً منتظرة السقوط الأخير والخروج الأخير حتى العام 1492، أما غيرها فقد سبقها إلى الاندثار، وكذلك الأمر في ولايات الشمال الإفريقي، حيث تصعد أسرة حاكمة على أنقاض أسرة حاكمة والصراعات على أشدها، وبواطن الأوضاع حبالى، وطلق الولادات الآتية على تلك الديار صعب وعسير.. لكن لا سبيل إلى وقفة، إضافة إلى أثر الغزوة الصليبية الشرسة على المشرق العربي.

    فهل كان ابن بطوطة لحظة أزمع الرحلة واعياً لكل هذا الصخب التاريخي وهل كانت رحلته مفارقة له؟!

    ليس في الصفحات الكثيرة التي رصدت خطوات رحلته وتركها أمانة للتاريخ إلا إشارات قليلة تتخفى وتتبدى بين السطور عن تلك الأحداث.

    ربما أن ما شاهده وعايشه وعاشه من غرائب وعجائب الأمصار والأسفار، غطى على ما كانت عليه حال الديار التي فارقها.

    ومع تتبعنا ابن بطوطة، كان الذهن يستحضر بين الفنية والأخرى، كتاباً تراثياً آخر، هو "عجائب الموجودات وغرائب المخلوقات" للقزويني، الذي حاول أن يضيف في مخطوطة العجائب والغرائب في الظاهرة الطبيعية، ويرتقي منها إلى غرائب وعجائب الظاهرة الكونية، غير أن ابن بطوطة، حدّق ودُهش ثم ألف وربما أحب، غرائب وعجائب الظاهرة البشرية في رحلته، وأن كل ما حولها من مظاهر العمران والخراب، إنما هو انعكاس لتناقضات النفس البشرية.

    فرحلة ابن بطوطة، على امتداد رقعتها الزمانية، وانفساح رقعتها المكانية، هي غوص معمّق في داخل النفس البشرية، ورصد عوامل المفارقة والائتلاف بين أطباع الناس على اختلاف أماكن وجودهم وتباين مراتبهم.

    أما هدف الرحلة المعلن عند ابتدائها، فكان حج البيت الحرام، وبلوغ مكة المكرمة والمدينة المنورة حاجاً وزائراً، وبعد أن بلَّ أشواقه من هذا المقصد، لم يعد قادراً على التوقف، إذ اجتذبت أشواقه خطاه، واقتادته إلى معرفة أشمل وأوسع وأعمق بالبشر وأرضهم، إلى أن بلغت به أن صنّفته بين أشهر رحالة التاريخ، إن لم يكن الأشهر على إطلاق صفة التفضيل.

    على أن ابن بطوطة وطول رحلته، لم يخرج من ثوبه الديني، فقد كان في كل موضع يحل فيه، يُعرف بأنه الفقيه المعلّم، والشيخ المتدين، والقاضي النزيه، حتى في زيارته إلى القسطنطينية (وهي زيارة مميزة من رحلته) وهي يومها القلعة الباقية من الإمبراطورية الرومانية الشرقية، وحامية المسيحية، وعلى رغم عسر التمهيد لتلك الزيارة، وتوسله بلوغها برفقة ابنة إمبراطورها (وفي صفحات الرحلة الكتاب تفصيل ذلك)، لم يخرج من إهابه الديني.

    أما في الهند، التي مكث فيها ما يقارب حالة استقرار (بالنسبة لرحالة دائم التوق إلى الحركة)، فقد تولى القضاء، وكذلك تولاه زمناً في الصين، وفي غيرهما من الأمصار، وكان موالفاً للأئمة ورجال الدين.

    وإذا ما حاولنا أن نرصد رحلته ما بين قطبي الزمان والمكان، نرى أنها تتجزأ إلى ثلاث رحلات، أطولها زماناً وأوسعها مكاناً الرحلة الأولى.

    فمن طنجة في المغرب، بدأ رحلته وهو في الثانية والعشرين من العمر إلى سجلماسة ثم فاس في المغرب، وإليها عاد منهياً رحلته وهو في الحادية والخمسين من العمر، وملقياً عصا ترحال دام تسعاً وعشرين سنة متصلة. وبعودته يقفل دائرة ارتحاله، تاركاً للتاريخ واحدة من أهم الرحلات، بما تقلّب عليه فيها من أحوال، وما تقلب فيه من أوضاع، واختلاف بيئات وأجواء، وتفاوت عادات وأطباع، رصدها كلها رصداً حياً ودقيقاً.

    على امتداد 29 سنة من ترحاله عبر معظم قارتي آسيا وإفريقيا. أما أوروبا وهي القارة الثالثة المعروفة في زمنه، فقد مرّ في جزأين منها، حول البحر الأسود في الطرف الأوروبي شرقاً، وبلاد الأندلس غرباً.

    وبلغت رحلته 75 ألف ميل، وتعتبر أطول رحلة في ذاك التاريخ، إذ بلغت أضعاف رحلة ماركو بولو المشهور عند الغربيين.

    وإذا ما تتبعنا رحلة ابن بطوطة على أطلس العالم في تقسيماته السياسية اليوم، نجد أنه مرّ ومكث وتعرف على أربع وأربعين دولة وقطر، كان عددها في زمانه أكثر من ذلك، بسبب تشطّرها إلى ممالك وولايات أصغر.

    يقول ابن بطوطة، في مشهد من مشاهد ارتحاله: "حلمت أنني على جناح طائر عظيم". وفسّر له أحد الحكماء هذه الرؤية بأنها ارتحال، واعتبر الفتى المشوّق أن تحقّق هذا الحلم أقرب إلى المعجزة.

    إلا أن عزمه حقق ما كان يعتبره معجزة.

    وظل جناح أشواقه وطائر ارتحاله، يحمله ويحط به من بلاد إلى بلاد، ماراً بكل العوامل الطبيعية، وتنوع المناخات، وبالأخص تنوع الأنماط الحياتية للبشر. فمن الشمال حيث كثافة الثلوج تعيق رحلته، إلى الجنوب تحت خط الاستواء بـ 600 ميل، ومن الشرق إلى الغرب من دون أن يهدأ إلا عند النقطة القصوى الممكنة في هذه الاتجاهات. مخترقاً البر وعابراً البحر.

    وحين يُذكر بلد ما في رحلة ابن بطوطة، فإنه لا يكتفي بحدوده البرانية، أو زيارة حواضره المهمة المعروفة، بل تشمل رحلته فيه مدنه الكبرى وقراه الصغرى، إذ قلما ترك موضعاً في بلد يسهل أو يعسر ارتياده، إلا فعل، وما منعته عنه إلا الاستحالة.

    وهو في كل هذا متمتع براحة اليسر وبمكابدة العسر معاً. وكثيراً ما اضطرته العوائق إلى تحويل طريقه، وفي معاناة مرّة، عبر استطالة الزمن، ووعورة الطرق، من دون أن يتراجع عن مقصد قصده.

    ففي ثنايا الرحلة تبرز المغامرة والمواجهة، سواء المتقصدة، أو الطارئة المباغتة، أو المفروضة عليها، فالمغامرة الحياتية ترصدته في كل مراحل رحلته، لكنها في النهاية كانت تقرّبه من مقاصد رحلته المعرفية.

    أعاقته الوعورة، والظروف الجوية القاسية، وأحياناً الشرور الآدمية المترصدة على الطرق. وفي رحلته العجائبية، تقلّب في كل الأوضاع، فمن قعر الحاجة والعوز والمرض والسجن، ومن وحشة الوحدة القاسية، إلى قمة العز والرفاه والجاه والحفاوة والتكريم.

    صادق السلاطين، والتقى الأباطرة، وصاحب الدراويش والتقى الأفاقين، وجالس عِلية القوم في كل مكان، وخالط سفلة القوم في كل مكان، ولكنه في كل هذا، لم يخرج من جلده، ولم يفارق نفسه التواقة إلى الكشف والمعرفة.. أخذاً وعطاء.

    وكان يمتصّ المعارف ويختزنها، ويعطي ما لديه من معارف معمّقة في أمور الدين، وظل طوال رحلته معلماً لأصول الدين في المناطق الإسلامية التي ارتحل إليها، فقيهاً متبحراً، إلى جانب توليه القضاء في أكبر بلدين مكث فيها لزمن (الهند والصين).

    وظل ابن بطوطة، طوال رحلته أميناً لحسه الإنساني الشامل بألفة العائلة البشرية ووحدتها، على رغم كثرة ما واجه من مقالب تعكّر هذا التصور الحميم في نفسه.

    وفي رحلته استوقفته البيئات الأكثر بدائية، وتمكن بطواعيته النفسية أن يتعايش معها، واستلهمته البيئات الأكثر رقياً وحضارة، وتمكن بألفته الذهنية أن يندمج فيها.

    من المغرب، الجزائر، تونس، ليبيا، مصر، السودان، وإلى الصومال، تنزانيا، عدن، اليمن، الحجاز وكامل الجزيرة العربية، بلاد الشام، سورية، لبنان، وفلسطين، بلاد فارس، تركيا، القسطنطينية، الهند البنغال، البحر الأسود، شبه الجزيرة الهندية، سيلان جاوه، سومطرة، أراضي الصين على اتساعها (بلدان الخانات العظام)، والأندلس، ثم العودة إلى المغرب، استطاع ابن بطوطة أن يرسم خريطة نابضة بالحياة لذلك العالم في تلك الفترة المميزة من زمنه، متأملاً تقاليد شعوبه المختلفة والمتناقضة، عاداتهم مألوفها وغريبها، وتقاليدهم الاجتماعية، وأوضاعهم الاقتصادية، واستوقفته بتمهل، وقفة المتأمل، كل ما فيها من عجائب الأمكنة وغرائب الطباع.

    وإذ كانت غالبية تلك البلدان، تدين بالإسلام، إلا أنه خرج أيضاً إلى التلامس مع شعوب خارج الإطار الإسلامي، فما أحسّ بغربة، إذ كان له من نفاذ البصيرة وتميز الشخصية ما يقربه من نفوس كل من قاربهم والتقى بهم وعايشهم.

    تزوج وطلّق وتزوج، وعدّد، فعُد مزواجاً، إلا أنه رصد في رحلته وضع المرأة في كل تلك الأقطار التي مر فيها، ولم يكن مشاهداً محايداً، بارد القلب والمشاعر، بل كان يعمل، وإن بالنصيحة، على تقويم المعوج والناتئ والشاذ المناقض للطبيعة البشرية الطيبة، والخارج على ناموس الحياة الخيرة، مستلهماً تعاليم دينه فيما كرّس له نفسه في ارتحاله من نشدان الأصلح والأقوم. وفي توليه القضاء أثناء رحلته، تميز بالعدل والنزاهة فأحبه العامة، وقربته الخاصة.

    وعندما اكتملت رحلته في دائرة المكان (على اتساع القارتين إفريقيا وآسيا)، واكتملت في دائرة الزمان (ما بين 1325 و 1354) هجع في فاس المغربية، وبطلب من واليها آنذاك، تفرّغ لاستذكار وتسجيل كامل وقائع رحلته، حيث أملاها على الكاتب ابن جزي، الذي يصف ابن بطوطة في مقدمة الكتاب المملى عليه، بعنوانه "تحفة النظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار" بأنه: "الشيخ الفقيه، العالم الثقة النبيه، الناسك الأبر، وفد الله المعتمر شرف الدين المعتمد في سياحته على رب العالمين، أبو عبدالله محمد بن عبدالله بن محمد بن إبراهيم اللواتي ثم الطنجي، المعروف بابن بطوطة".

    وفي خاتمة الكتاب، يقول ابن جزي: "انتهى ما لخصته من تقييد الشيخ ابن عبدالله محمد ابن بطوطة، أكرمه الله، ولا يخفى عن كل ذي عقل أن هذا الشيخ هو رحال العصر، ومن قال رحال هذه الملة لم يبعد، ولم يجعل بلاد الدنيا للرحلة، وكان الفراغ من كتابتها عام سبعة وخمسين وسبعماية".

    وقد ظلت المخطوطة الأصلية المتضمنة هذه الرحلة الشهيرة، محفوظة في باريس (على مألوف وجود المخطوطات التراثية العربية الإسلامية القيمة في الحواضر الأوروبية) لأكثر من ستة قرون، إلى أن تم تحقيقها ونشرها.

    وإن كانت المخطوطة بخط ابن جزي وصياغته، إلا من إملاء ابن بطوطة لوقائع ما مرّ عليه، وما مرّ به في رحلته، يبين مدى دقة ملاحظته ووعيه ونباهة رصده لأحوال الناس وتشابك وتفرغ العلاقات في ما بينهم، فتقدم صورة دقيقة الملامح نابضة بالحياة للأسرة البشرية بتنافر وتآلف علاقاتها.

    ولا تقل دقة وصف الأمكنة، عن دقة وصف البشر، وإن كان تغليب الثانية على الأولى واضح، فالأمكنة ليست في النهاية إلا أطراً لحياة الناس، فهذه حيوية ونبض، وتلك جمود وركود.

    وطوال الرحلة، لم يخلع ابن بطوطة إهاب الفقيه اللامع، وكان الحكام والأمراء والولاة يستقبلونه ويحيطونه بالحفاوة، وحظي في كثير من الأماكن بمنزلة اجتماعية مكرمة، وفُتحت أمامه القصور، كما فُتحت له مدارس الدين للإقامة مما يسّر عليه إتمام رحلته.

    وتعيدنا رحلة ابن بطوطة إلى القولتين النقيضتين، قولة هنري ثورو حول اتساع العالم والعلاقات الإنسانية، وقولة باسكال حول السعادة والثبات في الحجرة، فقد نقض ابن بطوطة قولة الثاني قبل زمانها، وأثبت قولة الأول قبل زمانه.

    على أن أبرز ما يمكن أن يميز رحلة ابن بطوطة، عن رحلات الرحالة الغربيين، كرحلة ماركو بولو مثلاً، أن رحلات هؤلاء كانت في أغلبها تمهيداً لمطامع بلدانهم في البلدان الأخرى، ورؤوس أسهم توجهها مقاصد الهيمنة الغربية على الشرق، بينما رحلة ابن بطوطة، رحلة مبرأة عن المقاصد الخبيثة، زاخرة بمعاني التوق والشوق، وأهداف الاطلاع والمعرفة والمعايشة الودودة، وتحقيق الألفة بين الناس على اختلاف مواطنهم.

    وقد تميز هذا الرحالة العربي ببصر جلي، وبصيرة نافذة، فحدّق تحديقة واعية ومحبة بكل ما رآه، ولامس ملامسة دافئة كل ما لقاه، وفي كل هذا كانت مقاصد الألفة مع الناس والأشياء والأمكنة تجمع بهم.

      الوقت/التاريخ الآن هو 9/5/2024, 9:31 pm