أمكنة

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
أمكنة

مجلة ثقافية تُعنى بأدبيات المكان


2 مشترك

    قراءة في المكان، في شعر علي العامري

    جلال برجس
    جلال برجس


    عدد المساهمات : 27
    تاريخ التسجيل : 17/12/2010
    العمر : 53
    الموقع : www.jbarjes.malware-site.www

    قراءة في المكان، في شعر علي العامري Empty قراءة في المكان، في شعر علي العامري

    مُساهمة من طرف جلال برجس 17/12/2010, 10:04 am

    شاهد اللثغة الأولى
    قراءة في المكان
    في شعر
    علي العامري



    * جلال برجس
    مدخل :

    المكان صورة راسخة من جهة ,وصاحب حراك مستفيض من جهة أخرى في الذاكرة إلى ما لا نهاية , وبالذات المكان الأول , مكان الألفة وراعي الخدر البعيد ( فلو تجاوزنا ذكرياتنا عن كل البيوت التي سكناها ,. والبيوت التي حلمنا أن نسكنها ,. فهل نستطيع أن نعزل ونستنبط جوهرا حميما ومحددا يبرر القيمة غير الشائعة لكل الصور المتعلقة بالألفة الحميمة ؟ ) 1 .
    فالمكان الذي يعلن عن نفسه بصورته الاحتوائية تلك التي تعلن عن تفاصيل شتى راسخة في أصص الروح , كالبيوت , الطرقات , الأشخاص , الأراجيح , الأصوات , الرياح , الخوف , الحب , والموت . يأتي بكل تفاصيله تلك, كزخة مطر مفاجئة , لتنقض على المخيلة , التي ما تنفك عن إنتاج أحلام اليقظة , لتضعنا أمام حقيقة مفادها ( أن الأماكن التي مارسنا فيها أحلام اليقظة تعيد تكوين نفسها في حلم يقظة جديد )2 .
    هي الرؤية الشعرية والميتافيزيقية للمكان وتفاصيله , وهي الانطلاق أيضاً من فهم المدرسة الشيئية , تلك المدرسة التي يرى معتقدوها الأشياء منوطة بحالة شعرية ورتم عالي من الانسنة العالية المقام .
    فالمكان عنصر ملاصق ومتاخم للإنسان , يؤثثانه بحالة فطرية من التعالق , وبالذات الأماكن الأولى , فالأمكنة في هذه الجهة التي تبدو تماما كالأمهات , ما أن تفارقها حتى يجيء الإلحاح بها حادا وجارفا . فألام كحالة تتكيء عليها وتنهل منها الإنسانية والبدء الأول للخصب والنماء , يجيء يوم وتنسحب من تفاصيل عالمنا الظاهري , إلا أنها لا تغيب تماما, تبقى سادرة في أصص الروح , تورق وتورق , وتورق .
    فليس عبثا أن تنز عن ذاكرتنا الجمعية مقولة مفادها أن اليتيم هو يتيم الأم وليس يتيم الأب , ترى ألا ينسحب هذا على المكان الأول , العش الأول , الطريق الأولى , الحاكورة الأولى والتي شهدت القبلة الأولى ربما .
    إذاً هنالك يتم آخر هو يتم المخلف ورائه مكانه الذي يبقى يروح ويجيء في بهو روحه كأرجوحة لن تحجم عن الأرجحة والاهتزاز , وبالذات كلما اشتدت قسوة السياط التي تجلد الروح .


    *******************
    في ديوان علي العامري ( هذي حد وسي هذي يدي المبهمة ) والصادر عن دار آرام للنشر والتوزيع عام 1993
    يأتي الإهداء صارخا وواضحا إلى المكان , إلى ( ( القليعات ) شاهدة الغياب , وشاهدة اللثغة الأولى ) القليعات التي شهدت غيابا موجعا لمنتج النص الشعري , هذا الغياب الذي لا يعادله سوى الغياب عن الأم , التي هي أكثر المخلوقات ارتباطا بالمكان . إذ يجيء الشق الآخر من الإهداء مؤكدا ذلك:
    ( شاهدة اللثغة الأولى ) تلك اللثغة لذاك الطفل وهو يخلف ورائه مكانا رائقا بالأمن والحنو , فتأتي اللثغة الأولى , الصرخة الأولى , الحزن الأول , ترنيمة وشحت جدران المكان الأول .

    ترى هل هنالك أدنى فسحة للنسيان بهذا الخصوص , حتى ولو أصاب الذاكرة عطبا ما ؟
    كما وتأتي الإشارات الأولى مطرا شعريا ينقر خطواته على صدر الدرب الضالة بالرمز المترع بالالتفات تلك الإشارات وذلك الومض المختار من قبل الشاعر , صوب قلق الأمكنة وأسئلتها التي هي جزء من أسئلة الحياة والموت :

    سيبقى مكان ينتظر أن يمتليء .
    طاغور

    إذا فلقت أي ذرة وجدت فيها شمسا .
    فريد الدين العطار

    حتى أن الشاعر ما فات إحساسه وإطلالته الشعرية -الأكيدة كقمر الحصادين من شرفة الشعر- ذلك الضوء الكاشف , حتى أشر لأمكنة كتابة النصوص وولادتها , من حيث أنها تكوينات تعيش فيه ومعه , وتلك التكوينات كان لها مكانها الأول أو لنقول , لثغتها الأولى .
    إذ أن المكان لدى علي العامري ليس مجرد طين وحجارة وتراب وأبواب وحركة للريح والأشخاص , فهو تكوينا إنسانيا صاحب دراما لها نكهة سحرية مأخوذة بالحنين والحزن عبر رؤيته الشعرية المتفردة , هذا التكوين الذي يعلن عن حزن وفرح متجاورين .
    أو بمعنى آخر يتجه على العامري بكل عذوبة , ووجع خاثر نحو أنسنة المكان وأشياءه دون عناء ولهاث.
    ففي إحدى قصائد ديوانه ( هذي يدي هذي حدوسي المبهمة ) وفي قصيدته التي تم إهداءها إلى محمد العامري وهو شقيق الشاعر والتي عنوانها الباب ,- الذي يأتي دائما كالشهقة الأولى , والبداية الأولى -, يفصح الشاعر للقاريء عن فهمه الخاص للانعتاق , الذي يسقطه على المكان بطريقة , ضج منها وهج التماسك بينهما , الشاعر والمكان .

    يقول علي العامري :

    ( الباب طير ,
    كلما اشتاق الفضاء لكي يطير ,
    بكى . )3


    الباب ذلك الشيء , الذي لا يمكن لنا إلا أن نراه سيد البيت وحارسه , وذاكرته المصابة بالفرح والحزن معا , والمعبر إلى روح المكان . إذ يحاول الشاعر إعادة تشكيله من خلال أحلام اليقظة خاصته ,فيبدو هنا أن ( وظيفة الشعر الكبرى هي أن يجعلنا نستعيد مواقف أحلامنا ) 4 , ليصير ذلك الباب عبر رؤية الشاعر طائرا يتوق للطيران , للحرية للانعتاق , من ثابت الصمت , في دائرة باتت فراغا ووحدة تحز في الذاكرة والمخيلة , .
    إلا أن توقه صوب الفضاء الرحب , يصطدم على صخرة ما بحجم الكون , سلاسل ما , عتم ما , فيأتي البكاء هنا بديلا احتياطيا , - صرير الباب والريح تعبث به , وصرير الالم في روح الشاعر - يطل من شبابيك الروح المتعبة , هذه الروح أو هذا الباب الذي يقيم على ربوة النشيج , يلملم بقايا لهاث المتعبين وحزنهم , ثم يزداد بكاءا .
    الباب والمتعبين عنصران , لم يتردد الشاعر عن الإفصاح بهما – بما انهما من عناصر المكان – بتلك الطريقة التي لا يدركها سوى من أتعبه طيف المكان البعيد , البعيد , هذا المكان الذي سيبقى يلح عليه حزينا ومصابا بالوجع , عبر مشروعه الشعري الإنساني الفذ .


    يقول :

    ( ولملم ما تبقى ,
    من لهاث المتعبين بصرة ,
    وبكى كثيرا .
    بينما تبقى فتاة الريح تطرقه
    ويبقى سادرا في صمته الخشبي )5
    هذا الصمت , هذا الملاذ الأخير , ما بعد بكائية الوجع , ومثالية السمو , والتوق للانعتاق .
    إذ يضيف العامري :

    ( مصلوبا أمام الناس والحراس والأجراس
    مشغولا بإرث الذكريات
    وبالأسى ) 6

    أي أسى موجع هذا الذي قاله ابن القليعات , ؟ أي أسى لباب مصلوب أمام كل من عبروه ووقفوا به , إلا أن ذلك الباب , ذلك التكوين الذي أتى إلينا مفعما بالحياة , يبقى مشغولا بالتاريخ , بالذكريات , بنفس لا يشوبه النكران . إلا أن هذا التذكر والانشغال مصحوبا بالأسى .
    ترى هل عبثا أهدى علي العامري قصيدته لأخيه ؟

    ونلاحظه يعود في نفس الديوان , ليسرد سيرة باب آخر , في مكان آخر ربما هو احد الأمكنة التي تنقل إليها ومنها . وهنا اقتطع البدايات الأولى لكل نص من النصوص التي حظيت بالترقيم :

    ( عين ساحرة تنظر من عين سحرية.
    عين واحدة تنظر من عين أخرى.
    عين أولى تنظر من عين أخرى .
    عين واحدة تنظر من عين ثانية .
    ثمة عين خلف العين . )7

    ذلك الباب الواقف في صدر الشقة وفي صدره عين سحرية ثابتة , ليس لها إلا أن تكون معبرا للرؤية . العين تراقب الخارج المتحرك بكل تفاصيله ( فالبيت والفراغ ليسا مجرد عنصرين متجاورين من المكان , فهما في مملكة الخيال يثيران أحلام يقظة في بعضها متعارضة ) 8 , وكأن الشاعر يردد في نفسه , لماذا لم ينتبه احد لهذه العين , وهو – أي الشاعر - يحمل في روحه توق للانعتاق , هذا التوق الذي يسقطه على المكان وأشياءه .
    إذ ينهي قصيدته , - التي أتت مجزأة تماشيا مع الحالات التي أوردها - بسؤال يذكرنا بسؤال الحياة وسؤال الخلود :


    ( هذا الكائن
    ذو عين واحدة
    من أنجبه ؟
    من سماه الباب . )9

    في قصيدته التي أتى عنوان الديوان بها ( هذي حدوسي هذي يدي المبهمة ) يؤكد الشاعر انشغاله بالمكان , شاهد اللثغة الأولى , بكل ما يحمل من انسياب للعيش والحياة . وتأتي قصيدته سؤالا, لا يسائل المكان به بقسوة المباشرة , إلا انه يمطر سؤاله لعناصر المكان , الأشخاص , الأشجار , الثعالب , الرياح , الصبايا , السماء الخ الخ .........
    يقول متسائلا :

    ( مالذي يخفق الآن خلف الزجاج ,
    الثعالب أم شجر الساهرين ؟ )10


    هنا ( نقرأ بيتا أو نقرأ حجرة , لأن الاثنين رسمان سيكولوجيان , يقودان الكتاب والشعراء في تحليلهم للألفة )11 , إذ أن سيرة للمكان تأتي هنا , بكل احتواءاته من الخارج والداخل , وكأن المكان يطل عليه من وراء الزجاج , في عزف على ترنيمة الألفة ومتناقضاتها .

    ويضيف الشاعر :

    ( القليعات هاجعة في قماط الريح )12
    هو السكون نفسه الذي ينتاب صورة المكان في روحه , في مداه الشعري, إذ صار المكان لديه طفلا , مع إدراكنا للحنين الجارف للطفولة ومع إدراكنا ايضا لدفء القواقع والأعشاش التي تحدث عنها غ.باشلار في كتابه الشهير جماليات المكان .

    ترى كيف انبثقت لديه تلك الصورة الشعرية ؟ وهي تأتي ك ( بروز متوثب ومفاجيء على سطح النفس )13؟

    في قصيدة( الغرفة ) التي احتضنها ديوانه ( كسوف ابيض ) الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 1997م , تعلن رؤيته الشعرية عن إحساس عميق بالوحدة والاغتراب , إذ تبدو الصورة الشعرية الكلية للقصيدة مترعة بالاغتراب الذي يسحب القارىء من ياقة روحه ويوصله إلى مكان يختلط به الالم عليه إذ صار المكان وسادن المكان شيئا واحدا .
    حالة رائعة من التعالق , الذي دون ذاك الوهج الرخيم من الانسنة لن تخرج تفاصيله من قماطها .

    يقول العامري:

    ( الغرفة لا تنسى ) 14


    إذ ندرك ونحن في بداية استغراقنا بالعتبة الأولى للنص , أننا في المكان والذاكرة والتذكر ,إذ أن هذا المكان لا ينسى , فتلح علينا رذاذات الأحلام – المعنية بمنتج النص التي من المكن أن نقرؤها ما بين السطور – تلك الأحلام التي ما انفكت , على ما يبدو تطوف بوهج الاغتراب القاسي والوحدة الرابضة في النفس .

    ثم يضيف الشاعر :

    ( الغرفة تبكي حين أغادرها ,
    وتلملم ما يتطاير من ريش
    ممسوس ,
    تجلس قرب الأوراق ,
    تحك الوحدة والصلبان , ) 15

    إذن هي الوحدة التي زوجها الشاعر من روحه بمكانه , الذي رآه يشاطره إحساسه بالوحدة التي لا يمكن أن ندركها دون أن نلمس حاجته للانعتاق .
    ثم يقول في مكان آخر من القصيدة نفسها :


    ( وتثير جناح الذكرى )16
    الذكرى المنوطة به والراشحة من مكانه الشاهد عليه بكل انفعالاته وانشطاراته . إذ يؤكد ذلك تلك الصورة الشعرية التي على قدر ما هي رائعة من حيث التقاطها , على قدر ما هي قاسية في تسربها نحو الروح :

    ( لكنني حين رجعت ,
    رأيت على كل جدار ليلا يمسك
    واحدهم بالآخر .
    صار سريري تابوتا
    وقميصي نامت فيه الغرفة ) 17
    للوهلة الأولى يبدو للقاريء أن الشاعر مصابا بترف ما من حيث تناوله المكان بكل تلك الكثرة , لكن القراءة النافذة لما وراء المفردات والصور الشعرية , الجزئية والكلية منها , وتلك الومضات الميتافيزيقية كفيلة بان تصحح ذلك الفهم الذي من المكن أن يأتي بشكل عاجل ومفاجيء , وما الشاعر إلا وليد سلسلة من التجارب المتنوعة والمتعددة بأزمنتها وأمكنتها . وبما أن هنالك تزواجا أصبح واضحا ما بين الذاكرة والمخيلة , يجيء إلحاح الأمكنة هنا مبررا ومدفوعا من جهة المخيلة التي تزج إلى الشاعر حلمه الخاص .
    ففي ديوان علي العامري ( كسوف ابيض ) تأتي قصيدة ( باب البعيد ) وكأنها جزء من سلسلة الألحاحات التي تطوحت , بداية من ديوانه الأول ( هذي يدي هذي حدوسي المبهمة ) وصولا إلى ديوانه ( كسوف ابيض ) , حيث نلاحظ أكثر من قصيدة تحمل اسم الباب وان لم يكن كذلك فإنها تبتدىء به أو ما تلبث أن تعرج عليه .
    هذه الحالة التي تأتي كإشارة رمزية للغياب الذي كما قلت سابقا يفهمه الشاعر بوعيه الخاص , ذلك الوعي المتزايد بعالم مترع بالتناقضات والقسوة , مقابل مكانه الأول ذلك المكان الفردوس , الذي استحال أخيرا إلى البديل لكل حالات العتم والضبابية .

    يقول :
    ( الباب يطل على الغائب باستمرار والغائب في نومته
    القصوى يرفع نخبا حجريا قدام البرق ) 18

    الغائب الذي يجيء مشوبا بحالة من العجز , مقابل استمرارية صارخة في الاستفزاز , من قبل الباب الذي من الممكن لنا هنا أن نفهمه على انه الصورة الأخرى للشاعر , إذا تناسينا ولو لبرهة ذلك التزاوج ما بين الشاعر نفسه وأمكنته التي تجوسها مخيلته .
    وفي قصيدته ( باب الحداد ) من نفس الديوان يأتي الغائب سادرا في جنائزية لاهثة عبرت كإحالة من ذاك العجز أمام كل ذلك التشظي , وقدمت نفسها كسؤال أمام الماء , أمام ثيمة الخصب والنماء التي أصابتها اللعثمة :

    ( من هنا ؟
    من ينام على حافة الغيب بعد عبور السديم ؟
    وهل في التميمة باب؟ إلى أي وجه أوجه مرثية الماء ؟
    هل يتدلى الهباء وانس ؟
    وهل في الرصيف مواويل شاغرة ؟ ) 19

    ونلمس ذلك في نهاية قصيدته ( باب البعيد ) وكأن الأمور تصل إلى نقطة تاه بها اليقين :

    ( والباب تسمر بالخيبات وقد سقطت يده في المطلق ,
    وانشق إلى ليلين. ) 20

    إذ أن وعي الشاعر هنا مصاب بالإضاءة الكاشفة , بنسق ميتافيزيقي لاذع , فالباب هو سيد الأمكنة وحارسها مصاب هو الآخر بكل توهجات البرق التي اقتادتنا إلى حالة من التمازج , بين صاحب النص وبين ذلك الباب الراحل معه إلى حيث يحل ويرحل , فهو يطرح بصراحته الشعرية المميزة , سر الباب لديه .
    ففي ديوانه ( كسوف ابيض) – ذلك الكسوف الذي ما هو إلا ظاهرة طبيعية , تنتج العتم , وبالتاي يدركها الشاعر واعيا بعتمها على أمكنة أحلام يقظته والتي هي وليد حقيقي للمكان الأصل – تأتي قصيدة ( بخفة سهو رمت نعيها المستطيل ) يحاول الشاعر بها اقتناص وعي آ خر ومختلف ليفضي به إلينا , إذ يقول :

    ( ولا أترنم
    إلا
    إذا مس روحي جناح الزلازل
    فالباب بيت
    به قد غفت لمسات
    الصبايا اللواتي فقدن خلاخيلهن أمام
    النيازك .) 21

    زلازل يريدها الشاعر لخلخلة السائد , لتمس الباب حتى , لتمسه هو , ربما لإحساس عميق بالرغبة لإعادة تشكيل الوعي والأشياء . هنا نلمس كم هو حجم العلاقة بالمكان , فعل الزلازل الذي لا يصيب إلا المكان الذي صار هو الشاعر نفسه , المتجهة روحه كثيرا إلى الباب , الذي ربما عول عليه كثير ا. باب في القرية , باب في المدينة , باب في المدن البعيدة, وباب في روحه , أبواب , أبواب , أبواب .
    فنراه يتساءل في نهاية قصيدة (باب الحداد) , بوجع لاذع :

    ( ايها الموت يا صاحبي
    كيف أمهلتني
    كل هذا الفراغ )22

    وفي قصيدة ( نجم قلبي معك ) يعصف به الإلحاح مرة أخرى , ولكن هذه المرة يحاول الشاعر أن يوهم القاريء , بأنه محايد عن نصه , لكن روح العامري معبأة بفرح الأمكنة مثلما هي مترعة بالحزن والغياب :
    يقول :

    ( عتبة البيت مشمسة
    بينما الباب يبكي
    وحيدا
    وقد نهشته خفافيش
    منقوشة في الخشب )23


    إذا أمعنا النظر في قصائد الديوانين السالفين الذكر , واللذين ارتكزت عليهما دراستي , سنلمس قصائد كثيرة وصورا شعرية , ورؤى شتى , ترسم حالات , وتشظيات للأمكنة – التي قطعا تشرب بها الشاعر - وإسقاطات رائعة لما يود صاحب تلك النصوص الإفصاح بها . ففي قصيدته التي حملت اسما صريحا ( القليعات ) وهي مكان الشاعر ومرجع ذكرياته وذاكرته , يأتي البوح الشعري بتفاصيل المكان وجزئياته كما لو انك تشاهد فيلما سينمائيا اعد برؤية شعرية ميتافزيقة , تحاول نبش ما وراء الأشياء لعلها تنطق بما يرفرف في أوردة الشاعر وهو يبتديء بصورته هو , وهو يرتد بها إلى أوله بحنين جارف , مطعم بنزق الحزن .

    يقول علي العامري :

    ( طفل بقميص اخضر يمشي محتارا مثل خرافات غير
    مدونة , وصباح يتسلق جسدا.)24

    صورته هو لكنه عجز عن فصل ارث تلك السنين من وجع وانشطارات , عن صورة الطفولة تلك .
    ثم يسترسل , بنقل رؤيته للمكان وهو القليعات :
    ( ارض عابقة بسنونو
    ودخان يتصاعد من قوس قزح.
    أعمدة تحمل أسلافا
    ومظلات ينقض عليها ضوء بمخالب
    حبل غسيل يعرض لوحته التجريدية تحت سماء مائلة
    للزرقة.)25

    ثم يأخذ وهو المأخوذ بتفاصيل العيش القروية , ببث التفاصيل الأخرى التي تؤثث المكان , بروح في غاية الروعة من الفنتازية :


    ( امرأة تكنس مسطبة الرعد
    فتقفز من خزانات الماء فراشات تبحث عن مفقودات
    كانت أمس هنا .)26

    ************************
    هذا هو المكان عند علي العامري , رديف لروحه التي أنا شخصيا أرى فيها من التعب ما يستوجب الشعر والشعر والشعر .
    شاعر حالم بكل ما للكلمة من معنى , حالم بكسر سطوة الغياب , وحالم باللثغة الأولى , لمكانه الذي لا ينفك عن التوهج به , اللثغة التي تقادته هربا من البرد الذي صار يلفح الروح رغم كل التموزيات التي تتراقص على سدة الصقيع .
    الم يقل غاستون باشلار في كتابه الرائع جماليات المكان :
    إن وظيفة الشعر الكبرى هي أن يجعلنا نستعيد مواقف أحلامنا .




    * الهوامش
    1. غ.باشلار\ جماليات المكان\ترجمة غالب هلسا\صادر عن مجلة أقلام\دار الجاحظ للنشر \وزارة الثقافة والأعلام \بغداد \1980
    2= = = = = = = = =
    3. علي العامري \ هذي يدي هذي حدوسي المبهمة \ دار آرام للنشر والتوزيع \1993
    4.غ.باشلار \نفس المصدر
    5. علي العامري \ نفس المصدر
    6.= = = = = = = =
    7.= = = = = = = =
    8.غ.باشلار \ نفس المصدر
    9.علي العامري \ نفس المصدر
    10.= = = = = = =
    11.غ.باشلار\ نفس المصدر
    12.علي العامري \ نفس المصدر
    13. غ.باشلار\ نفس المصدر
    14. علي العامري\ كسوف ابيض\ المؤسسة العربية للدراسات والنشر \1997
    15.= = = = = = =
    16.= = = = = = =
    17.= = = = = = =
    18.= = = = = = =
    19.= = = = = = =
    20.= = = = = = =
    21.= = = = = = =
    22.= = = = = = =
    23.= = = = = = =
    24.= = = = = = =
    25.= = = = = = =

    * شاعر وكاتب اردني
    مي بطاينة
    مي بطاينة


    عدد المساهمات : 24
    تاريخ التسجيل : 18/12/2010

    قراءة في المكان، في شعر علي العامري Empty رد: قراءة في المكان، في شعر علي العامري

    مُساهمة من طرف مي بطاينة 19/12/2010, 12:28 pm

    أينما فاجئني حرفك فاجأني المكان استاذ جلال... تحياتي

      الوقت/التاريخ الآن هو 10/5/2024, 6:33 am