أمكنة

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
أمكنة

مجلة ثقافية تُعنى بأدبيات المكان


    جمالية المكان في الإبداع الشعري

    رائدة زقوت
    رائدة زقوت


    عدد المساهمات : 177
    تاريخ التسجيل : 17/12/2010

    جمالية المكان في الإبداع الشعري Empty جمالية المكان في الإبداع الشعري

    مُساهمة من طرف رائدة زقوت 17/3/2011, 6:35 am

    إن المكان في الإبداع الأدبي عامة وفي الإبداع الشعري على الخصوص ليس صورة (فوتوغرافية) أو شكلا مرسوما هندسيا (طوبوغرافيا) كما أنه ليس موصوفا وصفا علميا أو مشهديا أو تشريحيا، وإنما هو تعبير أو تلفظ لغوي أو دال يحمل في ذاته مدلولا ثم يحيل على مرجع معين، ثم يصير من حيث الرؤية إلى مرجع مفتوح يعطي للدال فرصة كبيرة يتناسل من خلالها(6) كما قد يرتبط بدوال أخرى ضمن تركيب لغوي معين، وفي إطار سياق أسلوبي محدد، بل وضمن نص أو نصوص إبداعية متعددة تتفق في استعمالها اللغوي للمكان نفسه.. وهذا يسعف الدال على توسيع دائرة مدلولاته ومرجعه المفتوح.. لذا أصبح لزاما أن تخرج اللفظة المكانية المستعملة في الملفوظ/المتخيل (أي أن يخرج الدال) من المستوى الملموس إلى المستوى المجرد، ومن الإطار المحسوس إلى الإطار المعنوي، ومن المرئي إلى المفهومي أو الرؤيوي، ومن مجرد التذكر إلى التفكر والارتقاء في التخيل..

    إن أماكن الإبداع الشعري لغوية بالضرورة وإن أحالت على ما هو مادي في الأصل.. تتحرك في إطار ما تعطيه اللغة وما تزخر به تراكيبها وما تمنحه من معاني ومفاهيم وما تتمتع به من رؤى وما تحويه من رموز وما تكنه من تشكيل خصوصا إذا فجرها الإبداع الشعري تفجيرا شاعريا يُفيض على مفهوم المكان جمالا وسناء وسلاسة قد لا تبدو للعيان أو حتى للمتفحص الذي يعتمد على اللغة في منطوقها العادي أو في مفهومها الضيق والقاصر، أو في لعبتها غير الناضجة.. أو يعتمد بعض الأدوات النقدية العتيقة/المتجاوزة، أوالتي لم ترق بعد إلى ما آلت إليه الدراسات الحديثة، أو لم تتمتع بنظرة تكاملية توليدية وتفجيرية تعتصر اللغة الإبداعية اعتصارا في أساليبها وتراكيبها وعلائق كل مكوناتها كي تنتهي في ذلك وبذلك إلى الحصول على لب وأسِّ تلك اللغة وجوهرها الذي يحرك الأنفس ويدغدغ الوجدان ويرقى بالفكر ويسحر العقل ويعلو بالروح ويسمو بالفؤاد، ويبرز المادة المدروسة في جوهرها الشفاف، وهي ترقى في معارج الأدبية والشعرية..

    ويمكن أن نقسم المكان في الشعر كما في غيره من حيث المبدأ إلى قسمين اثنين: أحدهما يأتي محددا والآخر يكون غير محدد.. وبلغة النحاة القدامى ينقسم المكان إلى جنس وعلم، بمعنى أنه ينقسم إلى اسم جنس وهو الذي لا يختص بواحد دون آخر من أفراد جنسه كدار ومدينة وبحر.... واسم علم وهو الذي يدل على معين بحسب وضعه كدمشق وبغداد والنيل.....(7).

    أما المكان الجنس فهو أوسع دلالة وأشسع وظيفة وأغنى إيحاء وأوفى رمزا من المكان العلم، لأن هذا الأخير محدود الدلالة ويربطنا - نحن معشر المتلقين/القراء – بإطار معين وشكل محدد يفترض أننا نعرفه، كما أنه يفرض علينا التقيد به وبما يوحي به من أمور ترتبط به دون غيره، نفسيا وفكريا واجتماعيا وثقافيا ووجدانيا... ومع ذلك فإنه بوسع الناقد أن يستغل كل طاقاته النقدية والتحليلية والإبداعية ليزرع الروح الجمالية الواسعة في هذا المكان العلم كي يجعل منه مكانا قريب المفهوم والدلالة من المكان الجنس الذي من طبيعته أنه يفسح المجال للخيال الواسع والتأويلات المختلفة، والقراءات المتعددة، وحتى الإسقاطات المفترضة، كي يسبح في فضائه العريض ويمرح في دلالاته المتنوعة والكثيرة ويتمتع بوظائفه العديدة..

    وأخيرا يبقى المكان " بنوعيه الجنس والعلم" حاملا لدلالات السياق الذي ورد فيه من الإبداع الشعري، ووظائف الانساق اللغوية التي حل في وسطها، ثم طريقة المبدع في استغلاله اللغوي لذلك المكان أو ذاك.. ولا يمكن للناقد أن يخرج عن السياق أو النسق اللغوي أكثر مما يلزم حتى تبقى للمكان جماليته (النصية) - إن صح القيل- وكي لا يتيه المتلقي بين الإبداع في حد ذاته وإبداع قراءة ذلك الإبداع.. وكي لا يضيع القارئ بين اللغة/الخطاب و(الميتالغة/الميتاخطاب)، بل يجب أن يوجد تناغم وتوافق وتكامل وانسجام بين الإبداع ونقده، بحيث إذا كان الإبداع يحاول ملأ بياض فضاء ما بسواد الكتابة، فإن القراءة يمكن اعتبارها محاولة أخرى من المتلقي لملإ ما استطاع من جُزَيْآتِ ما تبقى من بياض ذلك الفضاء أي ما لم يملأه الإبداع.. وفي إطار التدافع بين سواد الإبداع وسواد قراءة الإبداع تكون – بعدهما- عملية التلقي قد احتفظت من كل منهما على ما أثبت قدرته الجمالية على البقاء والاستمرار ( فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ) (الرعد:19 )

    ثم إن الجمالية نفسها في قراءتنا تعتبر تقنية لغوية بل لعبة لغوية محض – كما يحلو لبعضهم أن يقول - فهي (أي الجمالية) ليست الجمال الذي نعرفه ونفهمه عادة بأنه الشيء الذي يثير في النفس معاني الخير والفضيلة والسمو أو يضرب فيها على أوتار الفرح والسرور والبهجة والغبطة، أو يحرك فيها كوامنها الإعجابية والاندهاشية، أو يدفعها إلى الاستغراب واستحضار مدى المهارة والبراعة والدقة في الصناعة الأدبية والإبداع الشعري.. وإنما الجمالية، مع ما تتوفر عليه من هذه المكونات نفسها وغيرها، تستعمل كتقنية لغوية قد يستشفها الناقد ثم يبرزها من داخل الإبداع، وقد يتمثلها المتلقي، دون أن يراعيها المبدع أو يفطن إليها أو قد يكون استضمرها..

    فالجمالية إذن تستعمل - كما قلنا- كتقنية لغوية تصور مكانا ما أو أي شيء آخر بأسلوبها المتميز وتعبيرها الدال وتجريدها الموحي كي تنقل المتلقي من عالم المحسوس/الملموس إلى عالم المفهوم/المجرد سواء أأثارت بذلك في قرارة نفسه دواعي الفرحة والغبطة والسرور، أو أثارت فيها مكامن الحزن والهم والغم، وسواء أوجهته إلى مواطن الخير والفضيلة أو حولته إلى مكامن الشر والرذيلة، أو حركت في دواخله مثيرات أخرى مختلفة.. وسواء أصورت- هذه التقنية/اللعبة اللغوية- مكانا ساميا ومقدسا، أو مكانا دانيا ومدنسا.. فالمهم هو أن يستطيع المبدع تصوير ما يريده، بوعي أو بلا وعي، بأسلوبه الخاص الذي يفوح سلاسة، ويمتلئ ماء شعريا، ويتضوع إيحاء وتصويرا، ويمتاز إيقاعا وبلاغة، مما يمكن المتلقي من الافتتان بجمالية هذا المكان أو ذاك الشيء أسلوبيا ودلاليا ولغويا، وليس ماديا/ بصريا/ حسيا ولا حتى فكريا.. لأنه كثيرا ما يكون الشيء قبيحا في ذاته وليس جميلا في أصله، ولكن الإبداع المتميز ينسينا قبحه، ويستر عنا سوأته، ويحجب كل ما ينفرنا منه عندما يتمكن المبدع من أن يصوره بطريقة أدبية جميلة تُـسْـقـَـطُ عليه إسقاطا جميلا وليس إسفافا، فيتحلى بها ويتزين، وقد يحصل التماهي بين الشيء وجمالية التعبير عنه فيصبح هو هو.. ويمكن أن نستشف مثل هذا المعنى من خلال قراءتنا لهذا الحدث التاريخي الرائع من السيرة النبوية العطرة، والذي يوضح ما نقصده من قولنا هذا، ويبين ما نود عرضه وطرحه لفهم هذا الأمر انطلاقا من الرؤية الإسلامية، وهو عبارة عن حديث نبوي شريف مصحوب بسبب وروده، يقول النص:

    **...فخر الزبرقان. فقال: يا رسول الله أنا سيد بني تميم والمطاع فيهم والمجاب، أمنعهم من الظلم وأخذ منهم بحقوقهم، وهذا يعلم ذلك – يعني عمرو بن الأهيم – فقال عمرو إنه لشديد المعارضة، مانع الجانب، مطاع في اذنه.. فقال الزبرقان والله يا رسول الله لقد علم من غير ما قال، وما منعه أن يتكلم إلا الحسد، فقال عمرو: أنا أحسدك ؟
    فقال عمرو: والله يا رسول الله إنه لئيم الخال، حديث المال، أحمق الوالد مضيع في العشيرة، والله يا رسول الله لقد صدقت في الأولى، وما كذبت في الآخرة، ولكني رجل إذا رضيت قلت أحسن ما علمت، وإذا غضبت قلت أقبح ما وجدت.. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ** إن من البيان سحرا**(Cool
    هذا النص يمكن أن نستخلص منه مجموعة من القضايا النقدية التي أثارت الجدل منذ القديم وأسالت – وما زالت - مدادا كثيرا، كقضية الصدق والكذب في الإبداع الأدبي " لقد صدقت في الأولى وما كذبت في الآخرة "، وكقضية العلاقة الموجودة أو المحتملة بين الجو الوجداني أو الحالة النفسية التي يكون عليها المبدع والإبداع الأدبي بشكل عام والشعري بشكل خاص، ومدى تأثر الإبداع بالمبدع " إذا رضيت قلت أحسن ما علمت وإذا غضبت قلت أقبح ما وجدت.." وكقضية الإبداع وتأثيره على المتلقي.. انطلاقا من " إن من البيان سحرا"، وعلاقة البيان بالسحر ومفهوم كل منهما، وكيف ربط الحديث بين السحر والبيان ولم يربط بين السحر والموضوع، لأن السحر غالبا ما يرتبط بالموضوع يقول الدكتور حميد لحمداني (9):* يتجلى الموضوع في الإبداع الأدبي من خلال سحره الخاص..*.. ولكن الأهم عندنا اللحظة هو ذلك الانطباع الجمالي والبصمات السحرية التي تركها المتكلم – عمرو بن الأهيم - بأسلوبين من الكلام/الخطاب متناقضين تماما، أحدهما جاء للمدح والوقوف على الفضائل وذكر المحاسن ، والآخر يصور الذم والهجاء ويكشف المثالب والقبائح..

    وبناء على الأسلوب الذي اتخذه المرسل في تبليغ رسالته، والطريقة التي أوضحها بها، والتعبير الذي استعمله لإنجازها، كان تأثر المتلقي/القارئ/السامع وانفعاله وتقديره واضحا عند قوله: " إن من البيان سحرا ".. إن البيان: اللغة والأسلوب وطريقة التعبير وحسن استعمال الكلمات واختيار الألفاظ وحسن تجاورها وإعطاء الصورة الواضحة عن الشيء، كل ذلك كان وراء تلك النظرة النبوية النقدية، وليس المدح أو الهجاء أو حتى موضوع اللقاء- ونحن نعلم موقف الإسلام من الهجاء والذم، ولكن هنا اختلف الوضع لقرائن عديدة ليس هذا مكان ذكرها- ومن هنا قلنا كيفما كان حال المكان- مقدسا أو مدنسا- فما على الناقد الإسلامي إلا أن يبرز الجمالية أو السحرية التي استطاع المبدع أن يصور بها ذلك المكان وأن يعبر بها عنه.. وإلى أي حد أسعفته ملكاته الإبداعية على تصوير/تخييل قداسة المكان أو دناسته.. وكيف تمكنت قدراته الفنية واللغوية والجمالية من تشخيص صورة المكان في ذهن المتلقي/القارئ وجعله يشخص إلى تلك الصورة المقدمة بأحد الشكلين: إما التعاطف والحب وإما النفور والكره.. ولا يتم أحدهما إلا في إطار العلاقة اللغوية التي ستتم بين المبدع والمتلقي.. فعن ابن عمر رضي الله عنه أنه قدم رجلان من المشرق فخطبا فعجب الناس لبيانهما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم **إن من البيان لسحرا أو إن بعض البيان لسحر**(10) وهكذا تكون"اللغة الإبداعية هي وحدها بمغامرتها الخاصة تستطيع أن تأسر بعض اللحظات الخاطفة من هذا التلامس الوجودي بين الذات والعالم، فـبـواسطة الـتـمـثـيل La représentation) (وبواسطة الصور الشعرية يستطيع المبدع أن يبلغ لذة اكتشاف سحر الموضوعات"(11)..[/B]

    الأستاذ عبد الرزاق المساوي

      الوقت/التاريخ الآن هو 9/5/2024, 5:47 pm