أمكنة

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
أمكنة

مجلة ثقافية تُعنى بأدبيات المكان


2 مشترك

    أيام في الجزر الخالدات

    أمكنة
    أمكنة
    Admin


    عدد المساهمات : 285
    تاريخ التسجيل : 16/12/2010

    أيام في الجزر الخالدات Empty أيام في الجزر الخالدات

    مُساهمة من طرف أمكنة 11/3/2011, 10:55 am

    أيام في الجزر الخالدات

    أيام في الجزر الخالدات 316247


    * لطفية الدليمي
    هنا فردوس اختصرته الشمس في جزيرة “غراند كناريا”، إحدى جزر الكناري السبع الخالدات، “أغويماس” القرية التي تحيا في 20 درجة مئوية صيفَها والشتاء وربيعها وما تبقى من خريف.
    أغويماس تُتم دورة وجودها السحري حول كاتدرائية سان سبارتيان الأثرية، وترسل أطراف شوارعها الملتوية إلى الجبل وشجره المداري، ومن جانب آخر تنحدر الأزقة في طريق صخرية منحوتة بتنهدات حوريات الأطلسي اللامرئيات. الهضاب بصخورها بين أغويماس وقرية الصيادين “أريناغا” تُنبت زهورا عملاقة من دوارات الريح أو طواحين الهواء شبه حديقة طالعة من بركان.
    أذرع الطواحين الوردية والثلجية تلملم الطاقة من رياح الأطلسي وترشها أضواء وضجة مكائن في القرى النائمة على المنحدرات. طواحين الهواء الإسبانية تشكل أفق الجزيرة وترسم "اسكتشاً" لفارس نحيل يرفع سيفه بوجه الريح ويمنح الفضاء مسحة أسطورية تستحضر “دون كيخوته” أو تستدرجنا إلى رؤيا مستقبلية اقترحها علينا “روجيه غارودي” في رواية “ما تبقى لكم”، رؤيا أنذرت البشرية بكارثة نووية يعود البشر إثرها لاستحصال الطاقة من “دوارات الريح” بعد أن دمرت كشوف العلم الشريرة معالم الحضارة وتاريخ الإبداع. كنت أضحك من رؤيا غارودي التي سبقت نبوءتها احتلال العراق حين أعادنا الاحتلال إلى العصر الحجري النفطي، فكنا في مفارقة الحرب ما بعد الحداثية وأسلحتها الفاتكة، نستضيء بالنفط ونتدفأ بالحطب ونتواصل بالريبة ونضحك بشهيق من اليورانيوم ونعشق في السر لئلا تُجَزّ رؤوسنا بسيوف المتشددين، ورجال ما بعد الحداثة يتوغلون في حاضرنا جاهدين لمحو الذاكرات وتنظيف الأرض منا نحن سكان ما بين النهرين وما تبقى من فراديس أوروك..
    كنت في "أغويماس" بين أحضان الأطلسي أرى مصير بلادي مهدورا على ناصية الديمقراطية التي فككتها فكاهات رسامي الكاريكاتير المريرة إلى “دم قراطيا “ حينا، وإلى”دم كراسي” أحيانا أخرى، وأقارن بين بهاء المحيط الأطلسي وغموضه ولانهائيته وبين اسمه الذي استعاروه للقوات المتحالفة التي غزت بلادي فدمرت كل شيء..
    "أغويماس" فتنة المعصية وخفة البراءة.
    "أغويماس" قرية تترنح على سراط رفيع بين المعصية وسذاجة البراءة وخفة الصبا، بلدة وُلدت من تزاوج البركان والمحيط واستلقت تحت فيء جبل من أشجار البوبايا وصداح طيور الفردوس، أزقتها متاهات بمنازل ممطورة بأقواس قزح، ضوء الظهيرة الباهر له صلف الصخور البركانية واللون الأصفر ينسلّ من البرتقالي الشمسي كخيط عسل، والقرميدي يذوب في البياض، والأزرق ينهمر من النوافذ فيوضاً من الزهور والموسيقى.
    في ظهيرة صيف توجهت من مطار مدريد وعلى طائرة “اير يوروبا” إلى “لاس بالماس” عاصمة جزر الكناري، لأحضر ندوة الرواية في مهرجان القارات الثلاث، وبعد رحلة ساعتين وربع الساعة فوق المحيط الأطلسي جنوباً إلى “الجزر الخالدات” لاحت لي جزيرة “غراند كناريا” مطوقة بالأمواج الأطلسية وسفن الصيد وسط الغمر المائي، مئتا كيلو متر تفصلها عن سواحل المغرب، وألفا كيلو متر عن مدريد، والهوية متداخلة ومتموجة ما بين الثقافة العربية الإسلامية والبربرية والإفريقية والأوروبية، لتفرض أوروبا آخر الأمر وجه الهوية المعلن وتقترح ثقافة هجينة حيوية متحركة تميز الجزر الساحرات. طرز العمارة الإسلامية المغربية والفنون تجاور العمارة الغوطية وتمتد من الأعمدة المنحوتة وشرفات الكاتدرائية إلى سلوك البشر الذي تتزاوج فيه بساطة الريف وكرم العرب وسماحة البربر، يبادرونك بالتحية كل آن كأنك صديق قديم عاد من سفر إلى أهله ودياره الأليفة..
    في مطار “لاس بالماس” الصغير الجميل كان السيد أنطونيو من المهرجان يحمل على لافتة ورقية اسمي، ومعه الآنسة “فاطيما أرماس” المسماة على اسم القديسة الإسبانية الشافية “فاطيما”، وقد لوحت شمس الجزر جسدها الفتي واختلطت شقرة شعرها المصبوغ ببرونز كتفيها المكشوفين، ألتقي بالحكواتي الآتي من الكونغو “برتراند” حاملا آلة موسيقية شعبية غريبة تجمع بين طبول وصنوج وآلات وترية مربوطة على يقطينة مجففة مفرغة وأجراس مجلجلة، والمخرج والحكواتي والكاتب الكولومبي “نيكولاس بوينو فنتورا فيدال”، نغادر المطار إلى الشوارع المحفوفة بالنخيل ونباتات الصبّار العملاقة التي تحيل ساحات مدينة أريناغا إلى جنائن مدارية نصفها من صنع الطبيعة وما تبقى من إبداع البشر، تنتشر منحوتات حديثة أو فطرية تتطاول مع نباتات صبار هائلة، وكلما تقدمنا تشخص أمامنا صخور بركانية عملاقة أبدعها جموح الطبيعة ونُقلت من سفوح الجبل البركاني لتزين الساحات..
    تصحبنا الآنسة “فاطيما” إلى شارع تحف به أشجار النخيل الضخمة وتغطي أرصفته جنبات الجهنميات وأشجار الدفلى، وتتجه بنا السيارة نحو المحيط في طريق ترابية ترتفع نحو تلة صخرية يعلوها فنار المدينة المحروس بهدير الأمواج وصيحات النوارس، ويبرز لنا المبنى الدائري الذي يشكل قوساً من ثلاثة طوابق جوار تلة الفنار مطلاً على الخليج والشاطئ الرملي، وفي المبنى تقيم الفرق المسرحية والموسيقية، بينما توزع الأدباء والصحفيون على منازل ذات طرز مغاربية وفنادق صغيرة تشبه الخانات الشرقية بباحاتها المزروعة ياسمينا وأشجار رمان حول النوافير وأحواض البنفسج..
    كتّاب وكاتبات من كولومبيا والأرجنتين وإسبانيا وفرنسا وكوبا والأورغواي وغينيا الاستوائية والكاميرون، حضروا ندوة الرواية التي دعيت إليها. الندوات تعقد في “أغويماس” قرية المهرجان التي تتوسطها كاتدرائية سان سبارتيان التاريخية التي تطوقها قاعات الرقص والمكتبات والبارات والمقاهي والمسارح وساحة روزاريو التي يسهر فيها الفنانون والراقصون حتى الصباح..
    السمندل تعويذة البقاء.
    السمندل، أو السحلية، تعويذة جزيرة "غراند كناريا"، تحتل المكانَ والزمانَ وذاكرات الناس علامةَ قيامة من رماد الأحداث، مرسومة على سفوح التلال والأرضيات وأطباق المطاعم والمناضد والرايات المحلية، أو مطرزة على القمصان والقبعات، وتباع كمنحوتات صغيرة مع التذكارات للسائحين، ونجدها مع الآثار الألفية في متحف المدينة ومتحف كولومبوس الذي جمعوا فيه أوراقا وأدوات تركها المستكشف الإسباني حين توقفت سفينته في الجزيرة قبل توجهه إلى المجهول ليربط بين سكان الجزر وشعوب أميركا اللاتينية بهجرات ومصاهرات..
    كل صباح، قبل أن أتجه إلى مقهى”أورورا” لتناول الشاي، أشتري فطائر التفاح من السيدة غابريلا التي تدير محلا لبيع الأطعمة والصحف والتحف الصغيرة، أصبحتُ زبونتها اليومية، طوال أسبوع. وذات صباح رفضت أن تأخذ ثمن الفطائر عندما رأت صورتي وقرأت حوارا معي في صحيفة “الباييس” الإسبانية -وتلك خصيصة كرم يمتاز بها سكان الجزر لا يعرفها الأوروبيون- عانقتني وأعطتني الصحيفة والفطائر وسحلية خزفية، تعويذة حظ من أساطير جزيرتها الساحرة.
    ربما قبل أن تكتمل البلدة بقرميدها وشجرها المداري، احتل فضاءاتها فنانون فطريون أفلتوا من أسطورة رعوية وتركوا في الزوايا والمنعطفات الظليلة تماثيلهم ومنحوتاتهم التي تباغت المارة، وتركوا تمثال عاشقين برونزيين متعانقين يفاجئنا في زقاق ضيق، وتكاد تشهق في الليل وتحاول حين تبصرهما كبح فضولك وتود العودة احتراما لحب يتلظى في عناق. الممر لا يصلح إلا لخلوة عشاق على مصطبة وحيدة، وقيل إن النحات خَلّد في التمثال قصة حب بين شاعر تروبادور إسباني وفتاة من سكان الجزر الأصليين وهم “الغوانشي“ ذوي الأصول الأمازيغية..
    وما إن تعبر الزقاق إلى النزل مشرقي الطراز بالفناء ذي الحديقة الداخلية وشجر الرمان والياسمين والصبير، حتى تتعثر بتمثال لجمل برونزي يبرك في منعطف طريق ضيقة، ومن كوى النزل تتدلى نحوه جنبات الجهنميات والياسمين، وفي الساحة وراء الكاتدرائية تمثال فتاة تعزف على آلة التشيلو، موسيقاها المتدفقة تبث من أجهزة مؤتمتة أخفوها وراء جدار الكاتدرائية. تهب عليك سيمفونيات وسوناتات مع الرياح الأطلسية الساخنة ويحضر شوبان وبرليوز وبرامز منذ أول الصباح حتى الصباح، وتحت ظلال الكاتدرائية الأثرية هناك حديقة سان روزاريو المحاطة بالبارات والمراقص والمقاهي وقصر الثقافة وحوانيت الحرفيين، حيث يتوزع الساهرون في البارات والمراقص ويتجمع الشباب في الحديقة حول الفرق الموسيقية ليعلنوا بهجة الحياة على مرأى من أبراج الكاتدرائية، وتمتزج التراتيل مع موسيقى الروك والجاز..
    رائدة زقوت
    رائدة زقوت


    عدد المساهمات : 177
    تاريخ التسجيل : 17/12/2010

    أيام في الجزر الخالدات Empty رد: أيام في الجزر الخالدات

    مُساهمة من طرف رائدة زقوت 21/3/2011, 1:12 pm

    اختيار جميل أستاذ جلال
    دائما تتحفنا بذوقك المميز
    تحياتي

      الوقت/التاريخ الآن هو 9/5/2024, 5:15 am