أمكنة

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
أمكنة

مجلة ثقافية تُعنى بأدبيات المكان


    الرجيب :مكان ملائم للتخفي عن أنظار السلطة

    أمكنة
    أمكنة
    Admin


    عدد المساهمات : 285
    تاريخ التسجيل : 16/12/2010

    الرجيب :مكان ملائم للتخفي عن أنظار السلطة Empty الرجيب :مكان ملائم للتخفي عن أنظار السلطة

    مُساهمة من طرف أمكنة 16/9/2011, 1:57 pm

    الرجيب: مكان ملائم للتخفّي عن أنظار السلطة


    محمد سلام جميعان



    ثمَّة أمكنة محاطة بسحر الغموض وغموض السحر. ربط الله على تضاريسها غلالة من الذكرى والدلالات، فهي راسخة مطمئنة على غرائبها وعجائبها التي تشهد للصانع القدير في العقول والنفوس، والطبيعة والطبائع.

    أمكنة يعرفها الجغرافيون، ويستروحون منها أنفاس قاطنيها، فتغدو في القصص والملاحم رحيبة وسيعة، يتناجى سكانها، ويتلطفون في الحركة والإيماءة والإشارة خشية من مجهول يتربص بهم ، أو شخص يتعقَّبهم ليشي بهم وبأسرارهم إلى سلطة هم منها هاربون.هكذا تتداعى صورة الأشخاص والمكان الذي قال عنها المقدسي (الرقيم: قرية على فرسخ من عمَّان، وعلى تخوم البادية فيها مغارة لها بابان : صغير وكبير...وفي المغارة ثلاثة قبور. لا شيء يبقى على حاله،لا الأسماء ولا مسمياتها (فالرقيم) أصبح لطول العهد عرضة للتبدلات الصوتية واللغوية، فدرج على ألسنة العمَّانيين وهواة "الفرجة السياحية"بلفظ آخر قريب هو (الرجيب)... لكن المكان هو المكان ، واقعيٌ قريب محسوس، تتناوله الروايات ويؤمّه الناس، أو يمر به المسافرون، فيومئون إلى معالمه وجهاته ويتحدثون، حتى ليتحول الخبر الواحد إلى جملة من الأخبار التي تزيد وتنقص، شأن أي مَعلم أو أثر ديني/تاريخي تتنازعه الدول والأقاليم ، فمن قائل إن أصحاب الكهف الذين ورد خبرهم في الذكر الحكيم في العراق ، إلى قائل إنهم ببلاد تركيا ...لكن المكان هو المكان... تقترب منه في وجل ورهبة، لا تلبث أن تزول أو تمتزج بالدهشة حين تنظر إلى مغارة فيها فجوة محفورة في الصخر، تطل منها شاخصاً ببصرك نحو الفتية الذين اعتزلوا قومهم، وتجردوا من زينة الحياة ، فلا ترى سوى جماجم وهياكل عظمية في زاوية خشنة ضيقة مظلمة، ينبعث من أقصاها خيوط من ظلال واهية، فتقول في سرك المرتبك المرتعش إنها خيوط الرحمة، تغزل الرفق واللين والرخاء.. وعندها تشعر أن الحدود الضيقة آخذه بالانزياح، وأن صلادة الصخر الذي يحيط بالجماجم آخذة في الرقة والنعومة.. وأن الوحشة الموغلة في الأبد السحيق تشف عن الارتفاق بمن قال عنهم الله في قرآنه: (لو اطلعت عليهم لوليت منهم فراراً ولملئت منهم رعبا).

    ومثل فارس يختبر قدرته على الرماية ، يختبر الزائر ركبتيه على الثبات، ويرفع بصره إلى السماء ثم يتأمل وجه الحارس الذي يجوب المنطقة الصخرية حماية للمكان من لصوص الآثار وسارقي الحضارات، داعياً إلى المحافظة على جماليات المكان والتحدث بصوت خفيض لئلا يوقظ الزائرون الفتية الراقدين .. ما زال يتخيلهم بهيئاتهم الأولى قبل أن تبلى الأجساد، أو استجابة للنص القرآني: ( وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود) لهذا يخرج الزائر بانطباع عن هذا الموظف الرسمي مفاده أنه يعي التاريخ والدين وعياً شعبياً تختلط فيه الحقيقة التاريخية والقرآنية بالأسانيد الخرافية.. فهو حارس لما يجهله. ولا يسعفك في تجاوز هذه المسألة غير الذهاب في عالم الماورئيات تترفع بها عن العالم الأرضي إلى سماء الخيال المأنوسة بالراحة والارتفاق، فتتمنى أن يضرب الله على عينيك النعاس لتشرب المشهد الكوني قطرة قطرة ، وتلتقط منه خيالاتك الموقف صورة صورة ، فتقرأ شفتاك في صمت خاشع أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا...).

    أكثر من زاوية في الصخر تفصح عن هدوئها وتدفق الظلال النورانية ؛ إذ من شأن الفتحة التي تدخل منها الشمس أن تحيل تأمل الزائر إلى استجلاء حركة الفلك وكيف تعمل في الفراغ السحيق على التكوينات القوية والخفية لعوامل الفناء والتحلل، والبقاء والحياة، لتبقي على الأجساد غضة كأنها خرجت للتو من حمام دافئ يعيد إلى العروق والأنفاس بهجة الحياة ويرسلها في إغفاءة بريئة تحرسها ملائكة...

    في ذلك الوقت الأول من لحظات الاختباء تبدو الأرواح الميتة في الأجساد الحية وكأنها تتهيأ لالتقاط صورة تذكارية ، ولكن الزمن في ما بعد يخفي التفاصيل والكتل ليجعل المشهد أكثر غموضاً، فما كان نابضاً غدا جامداً ، لكأنه أصبح المطلوب من الجماجم أن تكون رمزاً للموت وتذكيراً بحضوره الدائم. فمنذ ذلك الأبد السحيق لا أحد ولا شيء يشغل ذلك الفراغ سوى الفتية، أو بالأحرى، سوى عظامهم النخرة التي تشهد على عصور من الاستبداد والقمع الفكري ومصادرة الرأي واستعمار الحرية.

    ومثلما مضى زمن مديد على الفتية تبدلت فيه من حولهم الأشياء والأشخاص والأحوال بعد أن بعثهم الله من مرقدهم.. كذلك تبدلت (الرجيب) في قراباتها ومعاملاتها ومشاعرها وعمرانها.. فقد أحاطت أبنيتها بالكهف الذي حظي بالعناية الأثرية من ترميم وصيانة، وغدا الناس من حوله كأنهم يحرسون ويحفظون أسراره القديمة والحديثة.

    فالكهف الذي أوى الفتية إليه هاربين من بطش سلطان ذلك الوقت البعيد، احتضنت تضاريسه القريبة منه لاجئين وهاربين كثراً ، فعلى مسافة منه إلى الشمال الشرقي يقطن اللاجئون في مخيم الوحدات هرباً من بطش العصابات الصهيونية . وقريباً من الرجيب أيضاً أقام مشردون عراقيون أذاقتهم حرب الخليج وقوات التحالف لباس الجوع والخوف، ومن قبل اعتصم به الثوار السوريون حين طاردتهم قوات الاحتلال الفرنسي في بدايات القرن العشرين.. بهذا تغدو الرجيب ملاذاً للمضطهدين من بني الإنسان على امتداد الويلات والعصور.. وبلدة الرجيب اليوم معروفة جيداً لأصحاب الدخول المتدنية وصغار الحرفيين والتجار، تترامى على أطرافها الأجهزة والأدوات والآلات التي تنتظر زبائن يبحثون عن أسعار تتوافق مع دخولهم المتآكلة في زمن تحرير التجارة والخصخصة ، ولسان حالهم يقول مع الفتية: (ابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة..) ويعود الزبائن بأبواب خشبية وحديد مستعمل وأطقم حمامات تجارية..و..و...وشبك حماية تحمي أحلامهم وذكرياتهم عن أنفسهم وعن السلطة في (الرجيب/الرقيم) على بعد فرسخ من عمان.


    * كاتب وناقد من الأردن


      الوقت/التاريخ الآن هو 12/5/2024, 8:38 pm