أمكنة

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
أمكنة

مجلة ثقافية تُعنى بأدبيات المكان


2 مشترك

    عمان المكان... محمد صابر عبيد

    أمكنة
    أمكنة
    Admin


    عدد المساهمات : 285
    تاريخ التسجيل : 16/12/2010

    عمان المكان... محمد صابر عبيد Empty عمان المكان... محمد صابر عبيد

    مُساهمة من طرف أمكنة 18/3/2011, 4:15 am

    عمان المكان... محمد صابر عبيد 9k=
    عمان المكان
    *محمد صابر عبيد
    يؤدي المكان دوراً بالغ الأهمية في تشكيل السيرة الذاتية بوصفها فناً سردياً ينهض على استيلاد مكان معيّن ومحدّد له مرجعية واقعية معروفة ، لكنه ـ في الوقت نفسه ـ ينفتح على مجال تخييلي مقيّد تتأنسن فيه الكثير من صفاته ، وتأخذ بعداً بشرياً بمعية الشخصية ـ الشخصيات التي تتحرّى ـ عبره ومن خلاله وبوساطته ـ الكشف عن سيرتها على نحو أو آخر. تتنوّع نماذج التعبير السيرذاتي وتتعدّد بتنوّع المنهج الكتابي الذي تشتغل عليه الكتابة السيرذاتية وتعدّدها ، لكنّها ـ في كلّ أنواعها التعبيرية ـ تقوم على فعالية استرجاع تجربة الكاتب في منحى محدد ومعيّن ومقصود ومنتخب من مناحي حياتها ، واختيار أنموذج أسلوبي خاص للتعبير عن حيوية وحساسية وفضاء هذه التجربة ، والزوايا الحيوية الفاعلة والمؤسًّسة التي يستهدف الكاتب التركيز عليها وتكبير صورتها ، لتمثيل تجربته ومواقفه وحالاته ورؤاه وتصوراته في الزمان والمكان والحدث والطبيعة. إلا أن المكان يحظى بأهمية استثنائية ونوعية شديدة الخصوصية والحضور في التجربة النقدية والثقافية والفكرية الحديثة ، التي راحت تحاكي المكان وتفحصه وتفكك طبقاته وتغور في جوفه وتُبرز طيّاته وتبحث في عمقه التاريخي والحضاري ، على النحو الذي يجعل منه نصّاً قابلاً للقراءة والتحليل والتأويل والكشف.
    الناقد والكاتب ياسين النصير عكس احتفاءً نوعياً خاصاً بعنصر المكان في قراءاته ودراساته وبحوثه وكشوفاته ، إذ انشغل بموضوع المكان الأدبي والثقافي والفكري والفلسفي انشغالاً حيوياً مبكّراً ، ولا سيما بعد ظهور كتاب "جماليات المكان" ، لباشلار ، الذي ترجمه غالب هلسا ، وهو من النقّأد العرب القلائل الذين ظلّوا يحفرون في هذا الحقل الحيوي المهم بُغية اكتشاف كنوزه وعمقه وثرائه وخصبه. كتابه الموسوم بـ"الرؤية بعين الطائر ـ قراءة بصرية للمكان الأردني" هو آخر حلقة استكشافية سيرذاتية من حلقات كتابته المكانية ، وهو كتاب نوعي يشتغل على حساسية التجربة ، وفضاء الرؤية ، ودينامية الفكر ، في إطار سيرذاتي حافل بالحيوية والإدراك واستيعاب المعنى المكاني وقيمته.
    تتجلّى عتبة عنوان الكتاب ، "الرؤية بعين الطائر" ، تجلياً بصرياً عالي الحضور والهيمنة والتصوير والتشخيص ، من خلال حساسية "الرؤية" التي تعكس مجالاً ذا سعة وشمول وتركيز للإحاطة بالمرئي وتكثيفه ووضعه تحت مطرقة البصر ، ومن ثمّ استكشاف طاقاته وإمكاناته وكنز المعنى الدفين في أعماقه ، وتاريخه ، وجغرافيته ، وذاكرته ، وحلمه ، وإيحاءاته ، ورؤاه ، وطبيعة لغته الكامنة في صمته.
    تكتسب هذه "الرؤية" قوّة اشتغالها ونفاذها في المكان ، هنا ، من خلال الاستعانة بآلية "عين الطائر" ، التي تتميّز بالتسلّط البصري من الأعلى إلى الأسفل بشكل سهمي مخترق ، والتركيز على بؤر معينة دالّة في مساحة المكان ، وحضور فكرة الالتقاط التصويري للوحدات المكانية المنتخبة ، وتحريك منطق المكان وخطابه الأرضي للانفتاح على السماوي ، والتفاعل مع قوّة سقوط النظرة البصرية عليه لتفكيكه وفحصه ومعاينة تحولاته ، واللعب معها بين الرفض والقبول ، المنع والاستجابة ، والحجب والإظهار ، التقنّع والوضوح ، الانكماش والبسط ، الإخفاء والتجلّي ، القطع والمنح. تتجسّد فكرة عتبة العنونة في متن الكتاب على شكل احتواء وتمثّل وإحاطة ورعاية للطبيعة ، التي تتحرّك في النص بوصفها أكبر منتج للمكان داخل تمّوجات الفعل الحضاري وخارجه ، فتتبدّى الرؤية عند ياسين النصير عبر هذه الصورة من معرفة أن "ليس للعالم إلا حدبة وثقب ، ارتفاع ، وانخفاض ، من نصوص المرتفعات: القلاع والنجوم والشواهد ، والأشجار والجبال..إلخ ، ومن نصوص الانخفاض:التاريخ ، والزمن القديم ، والمدوّنة ، والقبور ، والكهوف ، والوديان ، والأسرار ، والذات العليا ، والآبار ، وأعماق البحار ، وأشجار الماء ، فالعالم حدبة وثقب ، فلا يرى إلا بعين طائر ، فالطائر وحده يمتلك ناصية الرؤية للأعالي والأعماق ، لما هو قلعة ، ولما هو وادْ ، تراه وهو يصوّب نظره نحو سفح جبل وهو طائر ، أو قلعة وهو يدور حولها ، يصعد جفنه ويوسع حدقتيه ، ويستطيل باتجاه الأعالي ، حيث لا مدرك له إلا ذاته وقد جاورت التحدّي ، أما إذا صوب نظره إلى الأعماق ، تراه يوسع حدقتيه ، ويركز بصره على بقعة أو فريسة ، وينزل مطبق الجناحين ، ملتفّ العضلات ، وكأنه لا يرى من العالم إلا أسفله ، ومن الإنسان إلا تاريخه القديم..".
    إنّ عين الطائر ، هنا ، هي كاميرا بعدسات متنوعة وشاملة وضامّة ومستوعبة واختراقية ، وتنطوي ـ فوق ذلك ـ على عقل موجّه يدير حركات هذه العدسات إدارة مركزية ذات مقصدية عالية ، تتفق وطبيعة الفلسفة التي تحرّك فاعل الرؤية نحو موضوعه.لا شك في أنّ الوعي الإرادي الحرّ الذي تتمتّع به عين الطائر وهي تجول الآفاق وتستطلع الحدود ، فإنها تخترق وتغوص وتحفر وتستجلي وتقرأ وتحلل وتؤول وتدور حول مرئياتها ، من أجل أن ترصد الحراك الداخلي العميق والظاهري اللافت للمكان ، وتحقق نيّاتها في خضخضة المكان والقبض على تموّجاته ورؤاه ولغته الخاصّة. ولياسين النصير خبرة واسعة وعميقة ، وفلسفة لها رصيد كتابي في النصوص والظواهر والكيانات والطبيعة ، تؤهّله لقيادة دفّة المسيرة المكانية بعين الطائر للكشف والاكتشاف وتحقيق الوجود وتأليف الخطاب وتشكيل الرؤية.
    لذا فهو يدرك قوّة عينيه المدرّبتين جيداً ليخاطب متلقيه قائلاً: "سأقرأ لك ما أراه بعينين تدرّبتا على الصعود حيث الأعالي ، وعلى النزول حيث القنص والتربّص" ، مؤكّداً كثافة تجربته وعمقها وحيويتها وضرورتها واستعدادها وفعاليتها وكفاءة عمل أدواتها ، إذ تشتغل في الاتجاهات كلّها والمستويات كلّها والأنساق كلّها ، وعلى نحو يكشف عن رؤية منهجية عالية القصدية غير محايدة ولا عفوية. وربما تتضح مسيرة هذه الرؤية المنهجية المتغلغلة في روح المكان وفلسفته عند عيني الطائر المغامر ، في ما يصف من درامية حراك بصري ورؤيوي يتوغل في أعماق الأشياء ومساماتها وطيّاتها وتشكيلاتها الطبيعية والحضارية ، عبر لغة خصبة يتجمّع على محور خطابها وبؤرة إيقاعها الخصوم والأحباب معاً ، في لوحة سردية سيرذاتية يقول فيها الراوي السيرذاتي المكاني: "صوّب الطائر عينيه ، فأطلّ على زمن محفور في الأرض ، زمن منخفض ، وقد دوّنت فيه آثار أقدام مسافرين... تهبط عيناه إلى العالم السفلي فتقرأ: خيط من سياج أخضر حمل بين أوراقه علامات الأيدي الزارعة ، وخيط من سياج مائي ، كان مغنّي القرية ينتظر فيه حبيبته ليسمعها غناءه الشجيّ ، وخيط من صخر أحمر ، حمل تواريخ القدامى أحرازاً معلّقة بأعناق النوق ، تنبئ في لحظات التألق عن تاريخ تشكيل المدن والناس ، وثمة بقعة زرقاء ، كقطعة من سماء المدن وقد حطّت فوق رابية تطلّ على الوادي كشاهد أبديّ على ما يجري. كانت عينا الطائر قرآن ، المدوّن الأرضي وتسجلان على حجر أحمر قديم ما يمكنه أن يبقى شاهداً ، ثم نزل الطائر ليقلب بعض الحصى الملوّنة بعينيه ، وبدأ يردد ما دوّن على إحدى الأشجار".
    الآلة البصرية التي تستخدمها العينان آلة حادة ومشحوذة جيداً ومدرّبة على تحديد المرئي في بقعة ضوء التصوير ، ثم تسليط عدسة ـ عدسات الكاميرا عليه لتصويره بأدق جزئياته ومكوّناته وتفاصيله ، تصويراً عمودياً وأفقياً ، لا يقف عند حدود الظاهر بل يسعى إلى استطلاع واستجلاء واستكناه الباطن أيضاً ، من أجل تحقيق فعالية تصوير ضاغطة ترهن المصوّرات وتخضعها لقرءاتها. ما يلبث الكاتب أن يؤسس لرؤيته المنهجية في الكتابة المكانية التي تجسّدت على هذا النحو في كتابه "الرؤيا بعين الطائر" ، ليوجّه النظر إلى المسوّغات والمبررات والقضايا التي اسهمت في تقديم المساعدة لإنجاز هذه الكتابة ، ليعبر الكتاب من هذه النقطة بالذات إلى الفضاء السيرذاتي الذي حفلت به مكانية الكتاب ، فهو يقدّم لهذا التصور بمهاد سيرذاتي يقول فيه: "مذ أن حللت في عمان مع نهاية عام 1991 وبداية 1992 وحتى اليوم تلازمني الكتابة عن عمان وأمكنتها وزواياها ، ونشرت عشرات المقالات عن الأمكنة التي فتحت بالكتابة عنها باباً في الثقافة الأردنية لم يكن أحد يوماً يطرقه ، ألا وهي الكتابة عن عمّان.. المشروع الذي حملته معي من العراق منذ عشرين عاماً ، أُكتبْ فأمكنة عمان وجرش والكرك والصحراء وسقف السيل والساحة الهاشمية ووادي الموجب والقلاع ومداخل البيوت والأمكنة الاعتباطية وكل الحواف الصغيرة والكبيرة ، تمتلك لغة غير مكتشفة ، مادة غنية الصورة وحركية بالرغم من سكونها ، فهي تعبر اليومي إلى الاستثنائي ، وحياة ضمنها الصخر فاحتفظ بهوية بلد يتسع يومياً بلغة التجارة والصناعة والعمران وطرد المخاوف ، أُكتبْ ومعك كل ما تريده: صحبة وأوراق ومجموعات فلسطينية وأردنية مثقفة تسدّ حاجاتك وعوزك ، أُكتبْ وأمامك من يستمع ويقرأ ويساعد على النشر ويتفهّم ضنك العراقيين الهاربين". إذ يخاطب ذاته الكاتبة ويحضّها على التوغل في أعماق هذه الرؤية لاكتشاف الذات والمكان والأشياء والرؤى ، من خلال قرءاة ميدانية تسير فيها القدم على الأرض ، وتلامس فيها الأصابع الأشياء المرئية ذات البعد المكاني المميّز ـ وحتى المهمل ـ وتدمغ فيها عين الطائر المرئيات بتوقيعها ، وتتحسس الروح معالم الظلال والخفاء والغموض والسحر الدفين الذي لا تطأه قدم ، ولا يلامسه إصبع ، ولا تدمغه عين صقرية طائره ، لتتجمّع كلّ هذه المكوّنات بين يدي الكتابة. بما أن العنوان الثاني ـ الثانوي ، "قراءة بصرية للمكان الأردني" ، بعد العنوان الرئيس ـ "الرؤية بعين الطائر" ـ يحيل على المكان المعيش ، فإن حساسية السيرة الذاتية تنبثق بين أونة وأخرى لتحكي مأساة الكاتب ، وهو يغادر بلده مهاجراً بحثاً عن مساحة للحرية والحياة والجمال والكتابة. وفي ظلّ خيارات قليلة وضئيلة ومحدودة يختار اللجوء إلى الأردن ، البلد الأقرب إلى العراق في التصوّر الأول لتفعيل حساسية القرب ، وثمة أسباب أخرى كثيرة لم تعد الآن خافية على أحد ، جمعت جالية عراقية أكبر من أن يتحمّلها بلد صغير كالأردن ، وعلى الرغم من كلّ الإشكاليات التي رافقت هذه الهجرة ووجود هذه الجالية العراقية الكبيرة ، إلا أن الأردن اتسع لهم وغطّى هجرتهم واحتوى غربتهم على نحو ما.
    ما تجربة ياسين النصير سوى واحدة من هذه التجارب الإشكالية التي انطوت دائماً على ثنائيات جارحة ، حضور وغياب ، مرارة وحلاوة ، تطلّع وحرمان ، قوّة وضعف ، رحابة وقسوة ، أصدقاء وأعداء ، ظلمة ونور ، صحبة وغربة ، دموع فرح ودموع حزن ، جوع وشبع ، ظمأ وارتواء ،
    رائدة زقوت
    رائدة زقوت


    عدد المساهمات : 177
    تاريخ التسجيل : 17/12/2010

    عمان المكان... محمد صابر عبيد Empty رد: عمان المكان... محمد صابر عبيد

    مُساهمة من طرف رائدة زقوت 18/3/2011, 10:25 am

    موضوع جميل بالفعل
    شكرا لك جلال

      الوقت/التاريخ الآن هو 10/5/2024, 9:00 am