أمكنة

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
أمكنة

مجلة ثقافية تُعنى بأدبيات المكان


    بعقوبا، سيرة مكان

    أمكنة
    أمكنة
    Admin


    عدد المساهمات : 285
    تاريخ التسجيل : 16/12/2010

    بعقوبا، سيرة مكان Empty بعقوبا، سيرة مكان

    مُساهمة من طرف أمكنة 14/3/2011, 12:22 pm

    بعقوبا، سيرة مكان Images?q=tbn:ANd9GcQPD4O3NHmM10PSUyEI-9u68YtCYW9LLDDpVctWG0_Lckxj-oHM6A

    بعقوبا .. سيرة مكان

    * وديع العبيدي


    " مدينة عشت فيها أعواماً قليلة، وعاشت فيّ كلّ أعوامي، تاركة بصماتها على صيرورتي."

    بعقوبا.. الخانات..

    الصفة الثانية لمناطق ديالى ومنها بعقوبا هي (الخانات). ويمثل (الخان) دالة على مرور طرق مواصلات دولية أو محلية عبر هذه المناطق. ويمكن استنتاج ذلك من أسماء هذه المدن التي ارتبطت بها حتى اليوم مثل خان بني سعد، قره غان (قرة خان)، خان قين، دربندخان. وفي كل واحدة من هذه المدن كانت تنتشر خانات أخرى لأغراض مختلفة كالبيع والشراء والمبيت، والخانات التي تبتاع فيها الماشية غير التي تباع فيها الخضر والفواكه من أهل الأطراف وتجار المدن الجوالين، وخانات مبيت البشر غير خانات مبيت الخيل والعربات وما يتعلق بها من أعمال الصيانة والرعاية. وارتبطت الخانات بوقوع (ديالى) على طريق الممر الدولي من روما إلى الصين المعروف (بطريق الحرير) [Silk Road] حسب نقل الرحالة. ويستنتج المؤرخ البعقوبي المحامي طه الدليمي في تحرياته عن شبكة مواصلات المدينة أنه [في العصر العباسي كان الطريق من بغداد إلى منطقة ديالى يمرّ بمدينة النهروان وهي جنوبي محطة كاسلر يوصف القديمة، وهي شمال الأمام المعروف بأبي العروج بعد مروره بأرض سامي الأورفلي ودير يترما ثم الدسكرة (أسكي بغداد) ثم شهربان وجلولاء وخانقين وكان هذا الطريق على الأرجح لا يمرّ ببهرز وبعقوبا. وتبدل الأمر آخر العهد العثماني]. ثمّ يستطرد الدليمي نقلاً عن (لونكريك) [ كان يتفرع من ضواحي بغداد الشمالية طريقان بزاوية حادة يمرّ الشرقي منهما بخان أسماه الأتراك (أورطه خان) – خان النصّ- ثم يصل إلى معبر ديالى في بهرز ومن ثم يحاذي بساتين قرى بعقوبا وقلعة شهربان ويمر بين تلال منخفضة (تلال حمرين) فيخترقها إلى خانقين". وطريق آخر بمحاذاة نهر ديالى جنوباً من جهة الشرق ماراً ببهرز حتى مصبّ ديالى في دجلة ومن ثم المدائن. وكان هذا الطريق يمرّ عبر صحراء غير آمنة من قطاع الطرق حتى بنى الوزير عمر باشا (خان) محكماً عام 1100 (خان بني سعد) الباقية آثاره لليوم].

    أما داخل بعقوبا فكانت تتناثر عدة خانات ، يذكر المؤرخ علاوي عبد الرزاق الخشالي في كتابه (لمحات من تاريخ بعقوبا القديم) عددها (أحد عشر خاناً) في مطلع القرن العشرين، في أماكن متفرقة من موقع مركز المدينة الحالي الكائن خلف دائرة المحافظة نحو العمق ومن موقع السوق خلف مصرف الرافدين تجاه أم النوه والمستشفى القديم. ويشغل أحد الخانات في منطقة السوق ما يسمى كراج النقل الداخلي وكراجات أخرى للنقل أو لغسل وتشحيم السيارات وما أشبه. ويلاحظ من طبيعة استخدامات هذه الخانات للأغراض العامة [كراجات النقل العام أو أبنية دوائر حكومية ومنها مستشفى بعقوبة الجمهوري] أن هذه الخانات تعرضت لمصادرة الحكومة عقب وفاة مالكيها وعدم ظهور ورثة أو صكوك ملكية أو أسباب أخرى. وكان في الجهة المقابلة لأول بيت نزلنا فيه لدى قدومنا المدينة في منتصف شارع النعمان (خان) كبير تبيت فيه العربات (الربل) يجاوره خان كبير متروك أقيم فيه مهرجان سيرك وحفل فني شارك فيه بعض مطربي الاذاعة في بداية السبعينيات ، استمر مدة شهر. وقد تم تهديم هذا الخان لاحقاً وأنشئت مكانه بناية معهد المعلمات الابتدائية. لقد فارقت الصيانة أبنية الخانات القديمة وجدرانها المتهاوية بفعل الزمن والطبيعة والاستهلاك، بينما كان غيرها ضحية لمنشآت حكومية أو أهلية، ولم يعن لأحد الاحتفاظ ببعضها كمتاحف أو أبنية أثرية تقرأ فيها الأجيال المحدثة سطور التاريخ أو سيرة هذه المدينة.

    *

    بعقوبا. . ذات القرى..

    تأخذ بعقوبا صورة القلب الذي تمرّ عبره الأوردة والشرايين إلى بقية الجسد والأطراف. أو صورة الأم التي تتحلق حولها بناتها أو الأخت الكبيرة بين (بنات نعش). فالهويدر وخرنابات ودلي عباس وشفته وبهرز وهبهب والسادة الصغيرة والسادة الكبيرة وكنعان وبلدروز، مستوطنات قريبة من مركز بعقوبة إلى حد الالتصاق والتواصل معها. ولكنها لا تتصل بها ولا تنفصل عنها تماماً. بعقوبة لها نكهتها وطابعها وكل واحدة من تلك الأطراف والأمكنة لها نكهتها وطابعها الذي لا يتشابه مع الآخر ولا يخطئها ابن المنطقة. القرية جاءت إلحاقاً بوجود (الخان) وليس العكس. والطريف أن [الرحالة الانجليزي جيمس بيكنغهام وصف بعقوبا قائلاً.. بعقوبا قرية كبيرة مبعثرة تتألف من مساكن مبنية من الطين وبساتين النخيل وحدائق وما شاكلها]. بينما ذكر [المنشئ البغدادي في العام 1820الذي دخل المدينة مع المستر كلاديوس جيمس ريج .. بعقوبا من قرى خريسان وهي من الجانب الآخر لنهر ديالى. وعلى شطي ديالى وخريسان خمسون قرية معمورة. وفي هذه القرى أنواع الفاكهة والكروم.] فترادفت صفات القرية والبستان والحديقة لاصقة بهذه المنطقة. بيد أن إطلاق صفة قرية بالمفهوم الزراعي المتعارف على مستوطنات ديالى المدينية فيه من التجني الشيء الكثير، وذلك لأن الطابع الفلاحي لأهل ديالى مرتبط بالبساتين المنتجة للفاكهة والحمضيات وليس بالأراضي الزراعية الكبيرة المرتبطة بمحاصيل الحبوب أو الخضر الموسمية التي تقتضي العمل الجماعي الخاضع للاقطاعي أو السركال أو الجمعية الفلاحية (المنشأة الزراعية). فعمل الانسان في بستان تعود له أو لعائلته أقرب للعمل في مشروع فردي خاص، وهو ينتج أنماط سلوكية ونفسية معينة. كما أن تنظيم القرية الزراعية الفلاحية يختلف عن تنظيم القرية المدينية وهو الأمر الذي توقفت لديه دراسة القرية السومرية المدينية في أنماط التعامل والتدرج والتوزيع العمراني، المختلف عن طابع المدينة القروية التي نشأت في مراحل لاحقة في العهد الوسيط أو المستوطنات الملحقة بالمدن العصرية اللاحقة. وينعكس كل ذلك بالنتيجة على الوضع الاقتصادي والمعيشي الجيد لمالكي البساتين (طبقة الملاكين). ان منتجات البساتين الرئيسية هي التمور بمختلف أنواعها والفواكه والحمضيات التي تصدر للمحافظات كافة. وهو من العوامل المنشطة لعمل الخانات (-العلوة- التجارية) واستقطاب التجار والوسطاء من أنحاء المنطقة للشراء والتبادل، والذي ينعكس ايجاباً على الوضع المعيشي للمنطقة. ان مناطق ديالى عموماً من مناطق الاكتفاء الذاتي اقتصاديا ومعيشياً ، بل هي تصدر منتجاتها لتحصل على حاجاتها من المواد الغذائية الجافة كالسكر والشاي أو الألبسة والمعدات من مناطق أخرى. ناهيك عن كثير من الأعمال اليدوية والتجارية المتعلقة بالزراعة والري ما يحقق مستوى لائقاً من التطور الاقتصادي لها. بالمقابل لم تستفد بعقوبا وغيرها من وقوعها على خط المرور والتجارة الدولية لاختصاص الحكومات المركزية (في بغداد) بجباية الضرائب والكمارك دون احتساب حصة المنطقة. وحتى السبعينيات كانت غالبية بيوت بعقوبا مبنية بالطابوق الحديث أو الحجر القديم، وهو ما يمنحها ميزة أخرى عن صفة القري الطينية حسب وصف الرحالة. وهذا يعني أن تحسن المستوى المعيشي كان يدفع باستمرار إلى تحسين أنماط السكن والعمران والتعامل والحياة اليومية.

    *

    بعقوبا.. الماء والخضراء..

    إذا كان وقوعها على طرق مواصلات التجارة الدولية أحد عوامل أهمية المدينة الستراتيجية فأن تطور هذه المدينة وحياتها لم تتأثر بمرور قوافل التجارة فيها قدر تأثرها وتعلقها بالخصائص الزراعية والمائية للموقع الجغرافي. أي أن الجغرافيا الاقتصادية الطبيعية كانت المحرك لمجتمع المدينة وليس اقتصاد المواصلات بالمنظور الاقتصادي. كما أن ما يغفله الرحالة والمؤرخون أن تطور الملاحة البحرية بعد القرن السادس عشر وانتشارها السريع [رأس الرجاء الصالح ثم شركة الملاحة البريطانية عبر دجلة وافتتاح قناة السويس]، قلّل الاعتماد على الطرق البدائية المرتبطة بأيام ماركو بولو وولده. وبالتالي، فأن الاستدلال بطريق الحرير ليس إلا للبيان التاريخي والتحديد الجغرافي لتقريب الصورة في ذهن الأوربي. ومنه أن التقرير الأمريكي الذي يورد أخبار قتلى الجيش الأمريكي في بعقوبا، يورد وقوعها على طريق الحرير (التاريخي) والمشهور في الذاكرة الغربية. وعقب السبعينيات لم تكن ثمة أية تجارة رسمية ناشطة نحو الشرق، ما خلا السياحة الدينية الخاضعة لمد وجزر الظروف المناخية والسياسية. وما في الذاكرة غير قصص تهريب المواد التجارية بين البلدين ما يدعى (تجارة سوداء) باستخدام الحمير والبغال بين أهالي المدن الحدودية في فترات التدهور السياسي للحكومة المركزية. وكانت أبرز مواد التصدير (الأسود) الشاي والسكر والرز وغيرها من المواد الغذائية الجافة، مقابل استيراد الأقمشة والمواد الكهربائية والالكترونية لاحقاً. وما يرد بعقوبا من ذلك فهو نزز نزيز وبأسعار مرتفعة لبعدها عن الحدود. وفي ظل الحصار المزدوج في التسعينيات وما بعدها ظهرت تجارة كارثية سوداء تتمثل ببيع السيارات الحديثة وتفكيك المنشآت الصناعية والالكترونية إلى قطع غيار وتهريبها ضمن مواد مختلفة بينها النفط إلى ايران وما بعدها. وقامت شركات ومآفيات سوداء لها فروع ومراكز منتشرة في بلدان أوربية غربية وشرقية وبلدان الجوار العراقي بتهريب متواصل للسيارات والالكترونيات من الغرب إلى شمال العراق ومنها إلى بغداد أو الحدود الايرانية نحو الشرق. وفي المناطق التي انعدمت فيها سيطرة الحكومة المركزية في بغداد تمّ تفكيك أجهزة ومباني الكثير من المنشآت الاقتصادية الحكومية والقطع والنفائس الأثرية وتهريبها إلى ايران وليس أكثر طرافة من تهريب النفط عبر الحدود على البغال والحمير أو الصهاريج الصغيرة حيث أمكن ذلك.

    لم تكن الآبار شائعة في بعقوبا للحصول على احتياجات المنزل من الماء وذلك لقربها من الأنهار وكثرة مصادرها القريبة، وكانت شخصية (السقاء) أكثر وروداً في الحياة اليومية أو اتصال النساء المباشر بالنهر قبل توصيل أنابيب المياه الصالحة للمحلات والأحياء السكنية. ويعتبر تقليد سباحة الأولاد في نهر خريسان في (ظهاري) الصيف من الرياضات اليومية بينما كان الأكبر سناً يذهبون إلى أماكن محددة مشخصة أسفل النهر للسباحة. ومجرى نهر ديالى معروف بعمقه وسرعة جريانه وقوة سحب تياره وفي ذاكرة النهر كثير من حوادث الغرق لعدم قدرة السابح معاركة قوة التيار الذي يسحبه بسرعة وحركة مزدوجة في زاوية قائمة نحو الأمام ونحو الأسفل. ولذلك لا يعتبر ديالى من أنهار السباحة المحبذة، ويتعارف السباحون المناطق المناسبة للسباحة من غيرها وما يقال عن نهر ديالى ينطبق كذلك على نهر مهروت الأضيق والأسرع أيضاً. وكانت (شريعة) خريسان عند قنطرة خليل باشا جهة البستان أفضل مناطق السباحة حيث يقفز بعضهم من سياج القنطرة في الماء.

      الوقت/التاريخ الآن هو 13/5/2024, 1:46 pm